وأمّا إن قيل: إن الخليفة من استخلفه غيره كما قاله بعض أهل السنّة وبعض الشيعة. فمن قاله من أهل السنّة يقول: إن النبي استخلف أبا بكر إمّا بالنصّ الجلي كما قال بعضهم، وإمّا بالنصّ الخفي.. وعلى هذا التقدير فلم يستخلف بعد موته أحداً إلا أبا بكر. فلهذا كان هو الخليفة، فإن الخليفة المطلق هو من خلفه بعد موته أو استخلفه بعد موته. وهذان الوصفان لم يثبتا إلا لأبي بكر. فلهذا كان هو الخليفة.
وأمّا استخلافه لعلي على المدينة فذلك ليس من خصائصه..»(1).
أقول:
إن (الخلافة) منصب إلهي كالنبوّة، فكما لا يراد من (رسول اللّه) من ادّعى الرسالة أو من قال الناس برسالته، بل المراد من انتجبه اللّه لرسالته، كذلك لا يراد من (خليفة رسول اللّه) من ادّعى الخلافة أو من قال الناس بخلافته، بل المراد من استخلفه الرسول.
فهل استخلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أبا بكر حتى يسمّى خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله؟
أمّا في حياته، فلم يدَّعه أحد أبداً، وأمّا بعد وفاته، فقد نصّوا على عدمه.
وقد رووا عن أمير المؤمنين عليه السلام التصريح بعدمه.
وكذا عن عمر. فقد أخرج الشيخان عنه أنه قال حين طعن: «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني أبا بكر، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني، يعني رسول اللّه».
وكذلك رووا عن عائشة، فقد سئلت: «من كان رسول اللّه مستخلفاً لو استخلف؟ قالت: أبو بكر».
قال النووي بشرحه: «فيه دلالة لأهل السنّة أن خلافة أبي بكر ليست بنصّ من النبي على خلافته صريحاً، بل اجتمعت الصّحابة على عقد الخلافة له وتقديمه لفضله، ولو كان هناك نصّ عليه أو على غيره لم تقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أوّلاً، ولذكر حافظ النص ما معه، ولرجعوا إليه، لكن تنازعوا أوّلاً ولم يكن هناك نص، ثم اتفقوا على أبي بكر»(2).
ولذا قال ابن حجر المكي: «قال جمهور أهل السنّة والمعتزلة والخوارج: لم ينص على أحد»(3).
وكذا قال غيره من الأعلام، كصاحب المواقف، وصاحب المقاصد(4) وغيرهما.
إذن، لا نصّ ولا قائل به من أهل السنّة… فما ذكره ابن تيميّة كذب، وتبيّن أن تسمية القوم أبا بكر بـ(خليفة رسول اللّه) باطل.
وسنتعرّض لكلام غير ابن تيمية فيما سيأتي.
أمّا النصوص التي يتمسّك بها الإماميّة لخلافة علي عليه السلام، ومنها ما قاله صلّى اللّه عليه وآله له بعد ما استخلفه على المدينة، فسنذكرها في محلّها.
وبما أشرنا إليه، من القول والاستخلاف معاً عند خروجه إلى تبوك، يظهر أن ذلك من خصائص علي عليه السلام، إذ لم يكن مجرّد استخلاف كما كان لابن أم مكتوم وغيره فيما رووا، فلا تجوز المعارضة بتلك الاستخلافات، فلا تغفل.
ومن الكذب: تكذيبه الحديث بقوله: «وأمّا قوله: إنه قال: إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك. فهذا كذب على النبي، لا يعرف في كتب الحديث المعتمدة».
فإن هذه الفقرة موجودة في سياق حديث: «أما ترضى أن تكون…» في رواية جماعة من أكابر حفاظ القوم في كتب الحديث المعتمدة. منهم الحاكم في (المستدرك)(5) والبزار في (مسنده) والعاقولي في (فوائده)(6) وابن مردويه، وآخرون.. وقد صححه الحاكم أيضاً.
وفي رواية أخرجها ابن سعد وعنه ابن حجر في شرح البخاري وغيرهما أنه قال له: «لابدّ من أن أقيم أو تقيم»(7).
(1) منهاج السنة 4 / 269 ـ 271.
(2) المنهاج في شرح صحيح مسلم 15 / 154.
(3) الصواعق المحرقة 1 / 69 الفصل الرابع من الباب الأول.
(4) شرح المواقف 8 / 354، شرح المقاصد 2 / 283.
(5) المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير 2 / 337.
(6) نفحات الأزهار 18 / 269.
(7) طبقات ابن سعد 3 / 24، فتح الباري: 7 / 60.