خطبة علي ابنة أبي جهل خبرٌ مفتعل
وإذ قد عرفت كذب الرجل في تكذيباته، لم يبق عندك ريب في بطلان مناقشاته وتشكيكاته، لكن من الضروري إظهار حقيقة الأمر فيما افتروه على أمير المؤمنين عليه السلام من خطبة ابنة أبي جهل، هذه الفرية التي أصرّ عليها ابن تيمية في هذا الموضع، وردّ على أساسها على استدلال العلاّمة بالحديث الوارد في أن فاطمة بضعة من النبي صلّى اللّه عليه وآله… .
فنقول: لابدّ من تحقيق هذا الخبر من جهات:
الجهة الأولى: سند الخبر:
إن أسانيد خبر هذه الخِطبة في كتب القوم كلّها تنتهي إلى:
1 ـ المسور بن مخرمة.
2 ـ عبد اللّه بن العباس.
3 ـ علي بن الحسين ـ وهو الإمام زين العابدين عليه السلام ـ .
4 ـ عبد اللّه بن الزبير.
5 ـ محمد بن علي ـ وهو ابن الحنفية ـ .
6 ـ عروة بن الزبير.
7 ـ سويد بن غفلة.
8 ـ عامر الشعبي.
9 ـ ابن أبي مليكة.
10 ـ رجل من أهل مكّة.
وكلّ هذه الأسانيد ساقطة على ضوء كتب الرجال والقواعد المسلّمة..
الحديث عن (عبد اللّه بن العباس)
رواه البزار والطبراني، وعنهما الهيثمي وقال: «فيه: عبيد اللّه بن تمام، وهو ضعيف»(1).
قلت: وهذا الرجل ذكره الحافظ ابن حجر، وذكر من مناكيره هذا الخبر، قال: «ضعّفه الدارقطني وأبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، روى أحاديث منكرة. وقال السّاجي: كذّاب يحدّث بمناكير. وذكره ابن الجارود والعقيلي في الضعفاء، وأورد له عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس: إن عليّاً خطب بنت أبي جهل، فبعث إليه النبي صلّى اللّه عليه وآله: إن كنت متزوّجاً فردّ علينا ابنتنا»(2).
والحديث عن (علي بن الحسين)
رواه ابن حجر العسقلاني، ثم قال: «وأصل الحديث في الصحيح من حديث المسور أنه حدّث به علي بن الحسين»(3). فالإمام عليه السلام يرويه ـ فيما يزعمون ـ عن المسور. وسيأتي الكلام عليه.
والحديث عن (عبد اللّه بن الزبير)
رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن: أيوب السختياني عن ابن أبي مليكة عنه(4).
قال الترمذي: يحتمل أن يكون ابن أبي مليكة سمعه من المسور وعبد اللّه ابن الزبير جميعاً. قال ابن حجر: «ورجّح الدارقطني وغيره طريق المسور، وهو أثبت بلا ريب، لأن المسور قد روى في هذا الحديث قطعة مطوّلة قد تقدّمت في باب أصهار النبي. نعم، يحتمل أن يكون ابن الزبير سمع هذه القطعة فقط، أو سمعها من المسور فأرسلها»(5).
قلت: إن كان عبد اللّه بن الزبير قد سمعها من المسور فأرسلها، فالكلام على حديث مسور سيأتي بالتفصيل. وإن كان هو الراوي بأن يكون قد سمع الخبر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو طفل، فإن عبد اللّه لا تسمع روايته مثل هذا الخبر; لأن عبد اللّه بن الزبير كان من أعداء أهل البيت، وهو السبب في انحراف والده الزبير عن علي عليه السلام، قال أمير المؤمنين: «ما زال الزبير يعدّ منا أهل البيت حتى نشأ عبد اللّه»(6).
والحديث عن (عروة بن الزبير)
رواه أبو داود بإسناده عن الزهري عنه(7). وهو مرسل، لأن عروة ولد في خلافة عمر.
مضافاً: إلى أن عروة من أشهر المنحرفين عن أهل البيت عليهم السّلام.. كما لا يخفى، وإلى ما سيأتي من الكلام حول الزهري الراوي عنه.
والحديث عن (محمد بن علي)
رواه أحمد عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عنه(8)، وهو مرسل كذلك، حسب اصطلاح القوم، فإن محمداً لم يسنده.
وأيضاً: عمرو بن دينار لم يسمع من محمد. وقال ابن حجر: «قال البخاري: لم يسمع عمرو بن دينار عن ابن عباس حديثه عن عمر في البكاء على الميت. قلت: ومقتضى ذلك أن يكون مدلّساً»(9).
والحديث عن (سويد بن غفلة)
رواه الحاكم عن أحمد بسنده عن الشعبي عنه، ثم صححه(10). وهو مرسل كذلك، إذ لم يدرك سويد النبي صلّى اللّه عليه وآله، كما لا يخفى على من راجع ترجمته.
والحديث عن (عامر الشعبي)
رواه أحمد في الفضائل، وهو في كنز العمال عن عبد الرزاق(11). وهو مرسل كذلك، إذ المشهور أن مولد الشعبي كان لست سنين خلت من خلافة عمر(12).
هذا بغضّ النظر عن قوادحه، وعن الكلام في رجال السند، إذ الراوي عنه فيه: زكريا بن أبي زائدة، وقد نصّوا على أنه كان يدلّس عن الشعبي ما لم يسمع منه(13).
والحديث عن (ابن أبي مليكة)
رواه المتقي(14) وهو مرسل، كما هو واضح.
والحديث عن (رجل من أهل مكة)
رواه أحمد بلفظ: «عن أبي حنظلة أنه أخبره رجل من أهل مكة». ورواه الحاكم بلفظ: «عن أبي حنظلة رجل من أهل مكة». ولا يخفى وهنه.
(1) مجمع الزوائد 9 / 203.
(2) لسان الميزان 4 / 97.
(3) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية 4 / 67.
(4) سنن الترمذي 5 / 360، مسند أحمد 4 / 5، المستدرك 3 / 159.
(5) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري 7 / 68.
(6) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 906.
(7) سنن أبي داود 1 / 323 ـ 324.
(8) كتاب الفضائل: 241 رقم 377.
(9) تهذيب التهذيب 8 / 27.
(10) المستدرك على الصحيحين 3 / 158.
(11) كنز العمال 13 / 677.
(12) تهذيب التهذيب 5 / 59.
(13) تهذيب التهذيب 3 / 285.
(14) كنز العمال 13 / 678.