وقد أجاب ابن تيمية عن هذا الإشكال بقوله: «جابر لم يدّع حقّاً لغير ينتزع من ذلك الغير ويجعل له، وإنما طلب شيئاً من بيت المال يجوز للإمام أن يعطيه إيّاه ولو لم يعده به النبي، فإذا وعد به كان أولى بالجواز، فلهذا لم يفتقر إلى بينة. ومثال هذا: أن يجئ شخص إلى عقار بيت المال فيدّعيه لنفسه خاصّة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال ويدفعه إليه بلا حجّة شرعيّة، وآخر يطلب شيئاً من المال المنقول الذي يجب قسمه على المسلمين من مال بيت المال، فهذا يجوز أن يعطى بغير بيّنة. ألا ترى أن صدقة رسول اللّه الموقوفة وصدقة غيره على المسلمين لا يجوز لأحد تملّك أصلها. ويجوز أن يعطى من ريعها ما ينتفع به. فالمال الذي أعطي منه جابر هو المال الذي يقسّم بين المسلمين، بخلاف أصول المال… والإمام إذا أعطى أحداً من مال الفئ ونحوه من مال المسلمين لا يقال إنه أعطاه مال المسلمين من غير بينة، لأن القسم بين المسلمين وإعطاءهم لا يفتقر إلى بينة، بخلاف من يدّعي أن أصل المال له دون المسلمين. نعم الإمام يقسم المال باجتهاده في التقدير»(1).
أقول:
قبل الورود في البحث:
أوّلاً: لم يتمكّن الرجل من تكذيب الحديث كما هو ديدنه، لكونه من أحاديث كتابي البخاري ومسلم.
وثانياً: ذكره جواز إعطاء الإمام ومنعه، وأنه يعطي باجتهاده… وغير ذلك من الأحكام… خروج عن محلّ الكلام، كما لا يخفى على أولي الأفهام.
وثالثاً: تفريقه بين طلب أصل المال وطلب منافعه، بلا وجه في محلّ الكلام.
ثم أقول: إنه لو تنزّلنا عن أن عصمة الزهراء عليها السلام توجب قبول قولها بلا شاهد، ولو تنزّلنا عن أنها صاحبة اليد وليس عليها إقامة البيّنة، ولو تنزّلنا عن كفاية شهادة أمير المؤمنين عليه السلام وحده، فكيف إذا انضم إليها شهادة غيره، لأن اللّه سبحانه قبل شهادته حيث قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)(2) والمراد بالشاهد هو علي عليه السلام، كما روى السيوطي بتفسير الآية:
«أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)؟ رسول اللّه على بيّنة من ربّه وأنا شاهد منه.
وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي في الآية قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على بيّنة من ربّه وأنا شاهد منه.
وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي قال: قال رسول اللّه: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ) أنا، (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) علي»(3).
وكما قبل اللّه ورسوله شهادة خزيمة وحده في قضيّة معروفة، فسمّي لذلك بذي الشهادتين(4).
لو تنزّلنا عن ذلك وأمثاله.. فإن الدليل الذي أقاموه لقبول أبي بكر دعوى جابر بن عبد اللّه الأنصاري بلا بينة، هو هو نفسه يقتضي قبول دعوى فاطمة الزهراء الصدّيقة، بضعة الرسول الأكرم، حتى لو لم يشهد لها أحد أصلاً..
قال الكرماني بشرح البخاري نقلاً عن الطحاوي: «وأما تصديق أبي بكر جابراً في دعواه، فلقوله: من كذب عليّ متعمّداً فليتبّوأ مقعده من النار، فهو وعيد، ولا يظن بأن مثله يقدم عليه»(5).
وقال ابن حجر بشرحه: «وفيه قبول خبر الواحد العدل من الصّحابة، ولو جرّ ذلك نفعاً لنفسه، لأن أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهداً على صحّة دعواه»(6).
وقال العيني بعد نقل كلام ابن حجر:«قلت: إنما لم يلتمس شاهداً منه، لأنه عدل بالكتاب والسنّة، أمّا الكتاب فقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة) (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). فمثل جابر إن لم يكن من خير أمّة فمن يكون؟ وأمّا السنّة فقوله: «من كذب عليَّ متعمّداً. الحديث. ولا يظن ذلك بمسلم فضلاً عن صحابي. فلو وقعت هذه المسألة اليوم فلا تقبل إلا ببيّنة»(7).
فنقول: مثل الزهراء عليها السلام إن لم تكن من خير أمّة فمن يكون؟
وأن الكذب لا يظنّ بمسلم فضلاً عن صحابي فكيف بالزهراء عليها السلام؟
فهذا وجه استدلال الإمامية في هذا المقام بقصّة جابر، فهل يصلح ما ذكره ابن تيميّة جواباً عنه؟
(1) منهاج السنّة 4 / 261 ـ 263.
(2) سورة هود: 17.
(3) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 3 / 324.
(4) سنن أبي داود 2 / 166 ـ 167.
(5) الكواكب الدراري ـ شرح صحيح البخاري 10 / 125.
(6) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري 4 / 389.
(7) عمدة القاري ـ شرح صحيح البخاري 12 / 121.