الشرح:
ثم إن العلاّمة رحمه اللّه أورد عدّة أحاديث من روايات أخطب خوارزم، فكان أوّل شيء ردّ عليه ابن تيمية أن قال: «إن أخطب خوارزم هذا، له مصنّف في هذا الباب، فيه من الأحاديث المكذوبة ما لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالحديث، فضلاً عن علماء الحديث، وليس هو من علماء الحديث ولا ممن يرجع إليه في هذا الشأن ألبتة»(1).
فأقول:
أوّلاً: كان مقصود العلاّمة في هذا المقام إيراد جملة من الأحاديث في فضائل وكمالات أمير المؤمنين عليه السلام اتفق على روايته الموافق والمخالف.
وثانياً: إن هذه الأحاديث التي رواها عن أخطب خوارزم ليست مما ينفرد به هذا الرجل، وفي طرقها كثيرٌ من الأعلام، بل رواها غيره من علماء أهل السنة أيضاً كما سيظهر.
وثالثاً: إن أخطب خوارزم ـ وهو أبو المؤيد الموفق بن أحمد بن محمد المكي الخوارزمي المتوفى سنة 568 ـ فقيه، محدّث، من علماء أهل السنة الكبار في القرنين الخامس والسادس، تخرّج بالزمخشري حتى قيل له: خليفة الزمخشري، ورحل في طلب العلم إلى البلاد كالحجاز والعراق، ولقي العلماء الكبار وأخذ عنهم وأجاز لهم. وبالجملة، فإنه من فقهاء الحنفيّة، ومن علماء الدين، ومن رجال الأدب، كما يظهر من تراجمه في الكتب المشتهرة:
قال العماد الإصفهاني: «خطيب خوارزم، أبو المؤيد الموفّق بن أحمد بن محمد المكي الخوارزمي، من الأفاضل الأكابر فقهاً وأدباً، والأماثل الأكارم حسباً ونسباً»(2).
وقال الحافظ ابن النجار: «الموفّق بن أحمد المكي، كان خطيب خوارزم، وكان فقيهاً فاضلاً أديباً شاعراً بليغاً، ومن تلامذة الزمخشري»(3).
وقال الصفدي: «كان متمكناً في العربية، غزير العلم، فقيهاً فاضلاً أديباً شاعراً. قرأ على الزمخشري، وله خطب وشعر ومناقب»(4).
وقال أبو الوفاء القرشي في طبقاته: «الموفق بن أحمد بن محمد المكي، خطيب خوارزم، استاذ ناصر بن عبد اللّه صاحب المغرب، أبو المؤيد، مولده في حدود سنة 484. ذكره القفطي في أخبار النحاة. أديب فاضل له معرفة في الفقه والأدب. روى مصنفات محمد بن الحسن عن عمر بن محمد بن أحمد النسفي. ومات رحمه اللّه سنة 568، وأخذ علم العربية عن الزمخشري»(5).
وقال التقي الفاسي: «الموفق بن أحمد بن محمد بن محمد المكي، أبو المؤيد، العلاّمة، خطيب خوارزم، كان أديباً فصيحاً مفوّهاً، خطب بخوارزم دهراً، وأنشأ الخطب، وأقرأ الناس، وتخرّج به جماعة، وتوفي بخوارزم في صفر سنة ثمان وستين وخمسمائة. ذكره هكذا الذهبي في تاريخ الإسلام.
وذكره الشيخ محي الدين عبد القادر الحنفي في طبقات الحنفية وقال: ذكره القفطي في أخبار النحاة، أديب فاضل، له معرفة بالفقه والأدب. وروى مصنفات محمد بن الحسن عن عمر بن محمد بن أحمد النسفي»(6).
وقال الحافظ السيوطي: «الموفق بن أحمد بن أبي سعيد إسحاق، أبو المؤيد، المعروف بأخطب خوارزم. قال الصفدي: كان متمكّناً في العربية، غزير العلم، فقيهاً فاضلاً أديباً شاعراً. قرأ على الزمخشري، وله خطب وشعر. قال القفطي: وقرأ عليه ناصر المطرزي. ولد في حدود سنة 484 ومات سنة 568»(7).
والخوارزمي ـ هذا ـ من كبار الحنفيّة في زمانه، فقد ترجم له في (الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية) و (الطبقات السنية في تراجم الحنفية) و (الفوائد البهيّة في تراجم الحنفيّة). وقد ألّف الخوارزمي كتاباً في مناقب أبي حنيفة، طبع في حيدرآباد سنة 1321.
وفي كتاب (جامع مسانيد أبي حنيفة) تأليف محمد بن محمود الخوارزمي نقل كثير عن الموفق بن أحمد، واحتجاج بأقواله وأشعاره في مدح أبي حنيفة وغير ذلك، مع وصفه بأوصاف وألقاب جليلة كقوله: «الصّدر العلاّمة أخطب خطباء الشرق والغرب صدر الأئمة»(8).
ولا يخفى أن صاحب جامع المسانيد المتوفى سنة 665 من كبار أئمة الحنفيّة المعتمدين المشهورين.
وتلخّص: إن أخطب خوارزم عالم فقيه محدّث أديب خطيب… لا يمكن تجاهله وإنكار قدره ومنزلته بين أهل السنة.
وأمّا كتابه في الباب، فقد ذكر ابن تيمية أن فيه من الأحاديث المكذوبة ما لا يخفى.
أقول:
وأي كتاب من كتب القوم ليس فيه من الأحاديث المكذوبة، وإنّ أصحّ كتبهم ـ وهما كتابا البخاري ومسلم المعروفان بالصّحيحين ـ قد نصّ غير واحد من أئمتهم على عدّة كبيرة من أحاديثهما بالبطلان، وقد جمعنا كلمات بعضهم في رسالة تحت عنوان (الصحيحان في الميزان).
لقد ذكرنا مراراً: أن مقصود العلاّمة من ذكر هذه الأحاديث هو التذكير ببعض فضائل ومناقب أمير المؤمنين برواية المخالفين والموافقين، مما لم يرو في حق أئمة القوم، ولم يطعن في صحته إلا المتعصّبون منهم.
ثم إن كتاب الخوارزمي في (مناقب الإمام علي) يشتمل على طرف من فضائل الإمام عليه السلام يرويها بالأسانيد عن مشايخه عن الصحابة، مع رعاية جميع أحكام الرواية، من دون أن يلتزم في أوّله بالصحّة، ومشايخه في الأكثر محدّثون معروفون في البلاد المختلفة، فمنهم من يروي عنه بالكتابة ومنهم بالإجازة وهكذا… .
وليس الخوارزمي بأوّل من ألّف في (مناقب أمير المؤمنين) ولا بالأخير، فإن كثيراً من أكابر القوم من المتقدّمين والمتأخرين يفتخرون برواية فضائله ومناقبه وكتابتها، بخلاف النواصب الذين لا يطيقون سماع واحدة منها!
هذا، وقد اشتهر هذا الكتاب في الأوساط العلميّة واعتمد عليه جمع من علماء القوم في كتبهم المختلفة، مما يدلّ على اعتباره عندهم:
كالحافظ الكنجي الشافعي، في غير موضع من كتابه.
والحافظ الزرندي الحنفي.
وابن الصباغ المالكي.
والحافظ السمهودي الشافعي.
وابن حجر الهيتمي المكي.
وابن باكثير المكي.
وعبد العزيز الدهلوي الحنفي.
وقد أوردنا نصوص عباراتهم في كتابنا الكبير(9).
(1) منهاج السنّة 5 / 41.
(2) خريدة القصر وجريدة العصر، عنه: نفحات الأزهار 19 / 147، لعماد الدين الكاتب الإصفهاني، المتوفى 597، ترجم له في: معجم الأدباء 19 / 11، وفيات الأعيان 4 / 233، العبر 4 / 299، طبقات الشافعية الكبرى 6 / 178، مرآة الجنان 3 / 492 وغيرها.
(3) ذيل تاريخ بغداد، عنه: اليقين للسيد ابن طاووس 166، للحافظ محب الدين ابن النجار البغدادي المتوفى سنة 643، ترجم له في: تذكرة الحفاظ 4 / 1428، طبقات الشافعية الكبرى 8 / 98، الوافي بالوفيات 5 / 7، البداية والنهاية 13 / 197 وغيرها.
(4) عنه: بغية الوعاة كما سيأتي، وتوجد ترجمة الصفدي صاحب الوافي بالوفيات المتوفى سنة 767 في: الدرر الكامنة 2 / 87، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 6 / 4 وغيرهما.
(5) الجواهر المضية في طبقات الحنفيّة 3 / 523، لأبي الوفاء عبد القادر القرشي الحنفي المتوفى سنة 775 وتوجد ترجمته في: حسن المحاضرة في محاسن مصر والقاهرة 1 / 471 وغيره. وأما القفطي فقد ذكر الموفق الخوارزمي في كتابه إنباه الرواة بأنباء النحاة 3 / 332 وهو الوزير: جمال الدين علي بن يوسف الشيباني، من وزراء حلب، المتوفى سنة 646، توجد ترجمته في حسن المحاضرة 1 / 554، بغية الوعاة 358.
(6) العقد الثمين في أخبار البلد الأمين 7 / 310، للتقي الفاسي المكي المتوفى سنة 832. توجد ترجمته في: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 7 / 18، طبقات الحفاظ للسيوطي 549 وغيرهما.
والذهبي صاحب تاريخ الاسلام المتوفى سنة 748 غني عن التعريف.
قلت: وذكره الذهبي في المختصر المحتاج إليه من تاريخ بغداد لابن الدبيثي: 360 أيضاً.
وأما القفطي وأبو الوفاء عبد القادر الحنفي، فقد تقدم التعريف بهما.
(7) بغية الوعاة في أخبار اللغويين والنحاة 2 / 308 للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 910 وهو غنيٌّ عن التعريف.
(8) انظر: جامع مسانيد أبي حنيفة 1 / 14، 31.
(9) نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار 19 / 164 ـ 173.