السّبب الأصلي للغارة
المطلب الثالث: في السبب الأصلي لغارة خالد:
وأمّا بالنسبة إلى «العداوة» بين خالد وبني جذيمة، فقد اضطر ابن تيميّة إلى أن يصرّح بها على الإجمال، بعنوان «يقال» قال: «ويقال: إنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهليّة، وكان ذلك مما حركه على قتلهم» ولولا تصريح علماء التاريخ والسيرة بذلك وشرحهم للقضية بالتفصيل، لما ذكر ابن تيمية هذا المجمل أيضاً:
قال ابن جرير الطبري ـ وجماعة من الأئمة المتقدّمين والمتأخرين ـ واللّفظ له:
«بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم حين افتتح مكة خالد بن الوليد داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب: سليم ومدلج وقبائل من غيرهم، فلمّا نزلوا على الغميصاء ـ وهي ماء من مياه بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة ـ على جماعتهم، وكانت بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهليّة عوف بن عبد عوف ـ أبا عبد الرحمن بن عوف ـ والفاكه بن المغيرة، وكانا قد أقبلا تاجرين من اليمن، حتى إذا نزلا بهم قتلوهما وأخذوا أموالهما، فلمّا كان الإسلام وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم خالد بن الوليد، سار حتى نزل ذلك الماء، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا… فلمّا وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم.
فلمّا انتهى الخبر إلى رسول اللّه رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد.
ثم دعا علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: يا علي، أخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج… ثم رجع إلى رسول اللّه فأخبره الخبر فقال: أصبت وأحسنت.
ثم قام رسول اللّه فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه ـ حتى إنه ليرى بياض ما تحت منكبيه ـ وهو يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد. ثلاث مرات»(1).
فظهر أن خالداً قتل قوماً مسلمين عملاً بأمر الجاهلية، وذلك أنهم قتلوا عمّه الفاكه بن المغيرة!
وحتى بناء على عرف الجاهلية، لم يكن يجوز له القيام بما فعل، فقد جاء في السيرة في شرح القضيّة ما نصه:
«وكان الفاكه بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم، وعوف بن عبد مناف بن عبد الحارث بن زهرة، وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، قد خرجوا تجاراً إلى اليمن، ومع عفان ابنه عثمان ومع عوف ابنه عبد الرحمن، فلما أقبلوا حملوا مال رجل من جذيمة بن عامر كان هلك باليمن إلى ورثته، فادّعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام، ولقيهم بأرض بني جذيمة قبل أن يصلوا إلى أهل الميت، فأبوا عليه، فقاتلهم بمن معه من قومه على المال ليأخذوه وقاتلوه، فقتل عوف بن عبد عوف والفاكه بن المغيرة، ونجا عفان بن أبي العاص وابنه عثمان، وأصابوا مال الفاكه بن المغيرة ومال عوف بن عبد عوف فانطلقوا به. وقتل عبد الرحمن بن عوف خالد بن هشام قاتل أبيه.
فهمّت قريش بغزو بني جذيمة، فقالت بنو جذيمة: ما كان مصاب أصحابكم من ملأ منا، إنما عدا عليهم قوم بجهالة، فأصابوهم ولم نعلم، فنحن نعقل لكم ما كان لكم قبلنا من دم أو مال. فقبلت قريش ذلك ووضعوا الحرب»(2).
هذا، وقد اعترف خالد بعمله بأمر الجاهلية، في كلام شديد جرى بينه وبين عبد الرحمن بن عوف: «فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهليّة في الإسلام! فقال: إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن: كذبت. قد قتلت قاتل أبي، ولكنك ثأرت بعمّك الفاكه بن المغيرة، حتى كان بينهما شر…»(3).
وهذا هو الذي تبرّأ منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لا مرّة بل مرّات! قال الحافظ السهيلي: «وذكر تبرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم مما فعل خالد، وهذا نحو مما روي عن عمر حين قال لأبي بكر الصديق رضي اللّه عنهما: إن في سيف خالد رهقاً، إن في سيف خالد رهقاً! فاقتله.
وذلك حين قتل مالك بن نويرة وجعل رأسه تحت قدر حتى طبخ به، وكان مالك ارتدّ ثم راجع الإسلام ولم يظهر ذلك لخالد، وشهد عنده رجلان من الصحابة برجوعه إلى الإسلام فلم يقبلهما، وتزوّج امرأته، فلذلك قال عمر لأبي بكر: اقتله…»(4).
قلت: وفي قصته مع بني جذيمة أيضاً، ردعه عمّا عزم عليه أكابر الصحابة الموجودين معه، كعبد اللّه بن عمر، وسالم مولى أبي حذيفة، فلم يعبأ بهما»(5).
أما قصته مع مالك، فستأتي مفصّلة.
(1) تاريخ الطبري 3 / 66.
(2) الروض الآنف ـ شرح سيرة ابن هشام 7 / 129.
(3) الروض الآنف ـ شرح سيرة ابن هشام 7 / 128، عيون الأثر في المغازي والسير 2 / 186، زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 168 وغيرها.
(4) الروض الآنف ـ شرح سيرة ابن هشام 7 / 159.
(5) الروض الآنف ـ شرح سيرة ابن هشام 7 / 127.