وأمّا ما ذكره في الوجه السادس، فتكرار، واستدلاله بالحديث المذكور باطل:
أمّا أوّلاً: فلأن هذا الحديث يكذّبه واقع الحال بين الصّحابة أنفسهم، فلقد وجدناهم كثيراً مّا يخالفون سنّة أبي بكر وعمر، والمفروض أنهما من الخلفاء الراشدين، بل لقد خالف الثاني منهما الأوّل في أكثر من مورد، وخالفهما ثالث القوم في موارد كثيرة حتى نقم عليه ذلك، وأمير المؤمنين عليه الصّلاة والسّلام أبى في الشورى الإلتزام إلاّ بسيرة النبي صلّى اللّه عليه وآله، وسعى لرفع ما سنّه المتقدّمون عليه بين المسلمين كما هو معروف..
وعلى هذا، فلو كان هذا الحديث صادراً عن رسول اللّه حقاً، لما وقعت تلك الخلافات والمخالفات، وبهذا أشكل غير واحد من العلماء على هذا الحديث، واضطرّوا إلى تأويله، وقد نصّ بعضهم على ضرورة ذلك(1).
وأمّا ثانياً: فلأنه ينتهي بجميع طرقه وأسانيده إلى (العرباض بن سارية) فهو الراوي الوحيد له، مع أنه ـ كما جاء في لفظ الحديث ـ وصيّة من النبي صلّى اللّه عليه وآله، خاطب بها الأصحاب في المسجد وبعد الصّلاة، وكانت موعظة بليغة منه، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب.. كما جاء في الحديث، فلماذا لم يروه إلا (العرباض)؟!
وأمّا ثالثاً: فلأن هذه الوصيّة لم يتناقلها إلا أهل الشام وهم هم في الانحراف عن أهل البيت، وأكثر رواته أهل حمص منهم بالخصوص، وقد اشتهروا بالبغض والنصب لأمير المؤمنين عليه السلام في تلك العصور(2).
وأمّا رابعاً: فلأنه مما أعرض عنه البخاري ومسلم، وكذا النسائي من أصحاب السنن، وكثيراً ما يردّ ابن تيمية الحديث بحجة أنه ليس في الصحيحين، ومن ذلك قوله في حديث افتراق الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة:
«هذا الحديث ليس في الصحيحين، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره، ولكن قد أورده أهل السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجة، ورواه أهل المسانيد كالإمام أحمد»(3).
قلت: ومن عجيب الإتفاق أن حديث: «عليكم بسنتي..» كذلك تماماً، فإنه (ليس في الصحيحين)، (بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث) كالحافظ القطّان المتوفى سنة 628 ونصّ على عدم صحّته(4). (لكن قد أورده أهل السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجة) أي: إلا النسائي (ورواه أهل المسانيد كالإمام أحمد).
وأمّا خامساً: فلأنه متكلّم في رجال أسانيده كلِّهم حتى (العرباض) الصحابي، ونحن نكتفي بالإشارة إلى أحوال رواته في الطبقة الأولى، إذ الرواة لهذا الحديث عن (العرباض) هم:
1 ـ عبد الرحمن بن عمرو السلمي.
2 ـ حجر بن حجر.
3 ـ يحيى بن أبي المطاع.
4 ـ معبد بن عبد اللّه بن هشام.
أمّا الرابع، فلم أجده إلا عند الحاكم حيث قال: «ومنهم: معبد بن عبد اللّه بن هشام القرشي» ثم قال: «وليس الطريق إليه من شرط هذا الكتاب فتركته»(5).
وأمّا الثالث، فلم يرو عنه إلا ابن ماجة(6)، وقد قال ابن القطان: «لا أعرف حاله»(7)وقد استبعد الأئمة لقيه العرباض.
قال الذهبي: «قد استبعد دحيم لقيه العرباض، فلعلّه أرسل عنه، فهذا في الشاميين كثير الوقوع، يروون عمّن لم يلقوهم»(8).
وكذا قال ابن حجر(9).
وسبقهما ابن عساكر(10).
وأمّا الثاني، فهو من أهل حمص، لم يرو عنه إلا أبو داود، وليس إلاّ هذا الحديث، لكن مقروناً بآخر ـ وهو عبد الرحمن بن عمرو، الذي سنذكره ـ وقال القطان: «لا يُعرف»(11).
وأمّا الأوّل، فهو المعروف بروايته عن (العرباض)، وليس له رواية في السنن إلاّ هذا الحديث، قال ابن حجر: «وزعم القطان الفاسي إنه لا يصح لجهالة حاله»(12).
وأمّا سادساً: فلأنه إنْ صحّ، فالمراد من (الخلفاء الراشدين المهديين) فيه هم الإثنا عشر الذين عناهم بقوله في الحديث المتفق عليه:«الخلفاء بعدي اثنا عشر».
هذا، ولنا رسالة مفردة في تحقيق حال هذا الحديث، فمن شاء التفصيل فليرجع إليها.
وأما ما ذكره في الوجه الثالث، فسوء فهم لكلام العلاّمة رحمه اللّه، فإن المنصور العباسي لمَّا قام ضدّه العلويون من بني الحسن السبط عليه السلام وأقلقوه واضطرب عليه الأمر، قصد تضعيف جانب العلويين والتقليل من قدرهم والحطّ من شأنهم، برفع بني تيم وعدي مطابقاً لاعتقاده، بل إن ذلك يقلل من شأن بني العباس أيضاً فقال: «لأرغمنّ أنفي وأنوفهم».
فهذا معنى الكلام والسبب في إحداث هذه البدعة التي استمرّ عليها الذين يسمّون أنفسهم بأهل السنّة.
(1) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 2 / 231.
(2) معجم البلدان ـ حمص.
(3) منهاج السنة 3 / 456.
(4) تهذيب التهذيب 6 / 238.
(5) المستدرك على الصحيحين 1 / 97.
(6) تهذيب التهذيب 11 / 245.
(7) تهذيب التهذيب 11 / 245.
(8) ميزان الاعتدال 4 / 410.
(9) تقريب التهذيب 2 / 315.
(10) تاريخ دمشق 18 / 186.
(11) تهذيب التهذيب 2 / 188.
(12) تهذيب التهذيب 6 / 216.