اعتذار القوم لخالد!
المطلب الرابع: في الاعتذار لخالد.
وقد اضطرب القوم وتناقضت كلماتهم في الاعتذار لخالد بن الوليد… .
والاعتذار له ـ بعد التصريح منهم بما سبق ـ عجيب جدّاً… .
أمّا الاعتذار بأنهم قالوا: «صبأنا صبأنا» فلم يقبل خالد ذلك منهم… ـ كما قال ابن تيمية ـ فهو بالنظر إلى ما تقدّم ساقط جدّاً، ولذا لم يذكره الأكثر، وحتى ابن القيّم ـ تلميذ ابن تيمية ـ لم يعبأ به، فإنه ذكر إسلام القوم واعتمده، ثم أورد ما قاله شيخه بعنوان «قد قيل» وهذه عبارته:
«ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة: قال ابن سعد: ولما رجع خالد ابن الوليد من هدم العزّى ـ ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقيم بمكة ـ ، بعثه إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه مقاتلاً، فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فانتهى إليهم فقال: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون، قد صلّينا وصدّقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحتنا وأذّنا فيها. قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم. وقد قيل: إنهم قالوا: صبأنا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا. قال: فضعوا السلاح، فوضعوه، فقال لهم: إستأسروا..»(1).
ومن هنا قال الحلبي: «ولا يخفى أنه يبعد أن خالد بن الوليد ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ إنما قتلهم لقولهم: صبأنا ولم يقولوا أسلمنا»(2).
فذكر عذر آخر.. قال ابن إسحاق: «قد قال بعض من يعذر خالداً أنه قال ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد اللّه بن حذافة السهمي وقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام»(3).
وهذا أقبح من سابقه، فقد ثبت أنهم كانوا مسلمين، وأنهم بنوا المساجد في ديارهم وأذّنوا فيها، وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول لقواده: إذا رأيتم المساجد والأذان فيها فهم مسلمون يحرم قتلهم، ولذا قال عبد الرحمن بن عوف له ـ في الكلام الذي جرى بينهما ـ : «كيف تأخذ المسلمين بقتل رجل في الجاهليّة؟ فقال خالد: ومن أخبركم أنهم أسلموا؟ فقال: أهل السرية كلّهم أخبروا بأنك قد وجدتهم بنوا المساجد وأقرّوا بالإسلام. فقال: جاءني أمر رسول اللّه أن أغير! فقال له عبد الرحمن بن عوف: كذبت على رسول اللّه. وإنما أخذت بثار عمّك الفاكه»(4).
على أنه لو كان خالد ـ أو المعتذر له بذلك ـ صادقاً، لوجب على النبي أن يتبرأ من هذا الخبر ويكذب المخبر ويؤاخذه على ذلك!!
وحينئذ، التجأ بعضهم إلى الاستدلال بما وضعوه عن لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، من النهي عن الطعن في الصحابة والأمر بالإمساك عنهم!!
والتجأ آخرون إلى كتم القصة أو ذكرها محرفة أو مجملة، فمنهم من يحاول أن لا يصرح بإسلام القوم، ومنهم لا يورد قصة الفاكه والكلام الذي جرى بين عبد الرحمن وخالد، ومنهم لا يذكر إرسال النبي صلّى اللّه عليه وآله عليّاً إلى القوم، وهو:
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 167.
(2) السيرة الحلبية 3 / 211.
(3) السيرة النبوية لابن هشام 2 / 430.
(4) السيرة الحلبية 3 / 211.