وتناقضت كلمات المدافعين عن أبي بكر، فقال ابن تيمية:
«والجواب: إن هذا كذب، ليس في شيء من كتب الحديث ولا له إسناد معلوم، فإنه لم يقل: وعلي فيكم»(1).
وظاهره قبول الخبر إلا كلمة «وعلي فيكم».
وقال ابن روزبهان في جواب كلام العلاّمة في (نهج الحق): «إن صحّ هذا فهو من باب التواضع…»(2).
وظاهره التشكيك في كلّ الكلام.
وقال الدهلوي: «المطعن العاشر: قول أبي بكر: لست بخيركم وعلي فيكم… .
والجواب: أوّلاً: هذه الرواية غير موجودة في شي من كتب أهل السنة، لا بطريق صحيح ولا ضعيف، فكان عليهم إيراده من كتب أهل السنة ثم المطالبة بالجواب، وإلزام أهل السنة بافتراءات الشيعة من غاية الجهل… وقد زاد بعض علماء الشيعة لفظ «أقيلوني»…»(3).
واختلاف كلماتهم يكشف عن اضطرابهم، لعدم وجود الجواب الصحيح عندهم.
بل لقد وقع بعضهم في التناقض، كابن روزبهان، الذي ذكر في موضع آخر وجود الخبر بكامله في الصّحاح، وهذا نصّ عبارته هناك بقدر الحاجة في جواب كلام للعلاّمة: «إنه بيّنا في هذا رواية الصّحاح، فإن أرباب الصّحاح ذكروا في بيعة علي لأبي بكر أن بني هاشم لم يبايعوا أبا بكر إلا بعد وفاة فاطمة، ولم يتعرّض أبو بكر لهم وتركهم على حالهم، وكانوا يتردّدون عند أبي بكر ويدخلون في المشاورات والمصالح والمهمّات وتدبير الجيوش. فلمّا توفيت فاطمة بعث أمير المؤمنين على أبي بكر وقال: ائتني وحدك. فجاءه أبو بكر في بيته، فجلسا وتحدّثا.
ثم قال علي لأبي بكر: إنك استأثرت هذا الأمر دوننا، ما كنا نمنعك عن هذا الأمر ولا نحن نراك غير أهل لهذا، ولكن كان ينبغي أن تؤخره إلى حضورنا.
فقال أبو بكر: يا أبا الحسن، كان الأنصار يدّعون هذا الأمر لأنفسهم، وكانوا يريدون أن ينصبوا أميراً منهم، وكان يخاف منهم الفتنة، فتسارعت إلى إطفاء الفتنة وأخذت بيعة الأنصار. وإن كان لك في هذا الأمر رغبة، فأنا أخطب الناس واُقيل بيعتهم وأبايعك والناس.
فقال أمير المؤمنين: الموعد بيني وبينك بعد صلاة الظهر.
فلما صلّوا الظهر رقى أبو بكر المنبر وقال:
أقيلوني، فلست بخيركم وعلي فيكم…»(4).
وعلى كلّ حال، فقد اتفقت كلمتهم على كلمة «لست بخيركم» فلتكن هذه الكلمة هي القدر المتيقّن وبها الكفاية، لأنه قد تقرَّر عند الجمهور اشتراط أن يكون الأفضل بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هو الخليفة له. فإذا ثبتت هذه الكلمة عن أبي بكر قلنا:
أوّلاً: إنه بهذه الكلمة يبطل ما روي من قول عمر في السقيفة مخاطباً أبا بكر: «أنت سيّدنا وخيرنا»(5).
وثانياً: إنه بهذه الكلمة يسقط أبو بكر عن الولاية، لأنه قد أعلن بها عن عدم أهليّته لها، لأن المفروض أنه لم يقل ذلك هزلاً ولا امتحاناً لمن بايعه من الناس.
لكن كلمة «أقيلوني» موجودة في المصادر سواء بهذا اللّفظ أو نحوه، وقد عقد الحافظ أبو العباس محبّ الدين الطبري لذلك باباً في أحوال أبي بكر، إذ قال: «ذكر استقالة أبي بكر من البيعة: عن زيد بن أسلم قال: دخل عمر على أبي بكر وهو أخذ بطرف لسانه، وهو يقول: إنّ هذا أوردني الموارد، ثم قال: يا عمر لا حاجة لي في إمارتكم. قال عمر: واللّه لا نقيلك ولا نستقيلك. ثلاثاً.
خرّجه حمزة بن الحارث.
وعن أبي الجحاف قال: قام أبو بكر بعد ما بويع له وبايع له على وأصحابه، فأقام ثلاثاً يقول: أيها الناس قد أقلتكم بيعتكم هل من كاره؟ قال: فيقوم علي في أوائل الناس يقول: لا واللّه لا نقيلك ولا نستقيلك، قدّمك رسول اللّه فمن ذا الذي يؤخّرك.
خرّجه ابن السمّان في الموافقة.
وعنه قال: احتجب أبو بكر عن الناس ثلاثاً يشرف عليهم كلّ يوم يقول: قد أقلتكم بيعتي فبايعوا من شئتم قال: فيقوم على بن أبي طالب فيقول: لا واللّه لا نقيلك ولا نستقيلك، قدّمك رسول اللّه فمن ذا الذي يوخّرك.
خرّجه الحافظ السّلفي في المشيخة البغدادية وابن السمّان في الموافقة.
وأبو الجحاف هذا هو داود بن أبي عوف البرجمي التميمي مولاهم، كوفي ثقة، روى عن غير واحد من التابعين، وهو حديث مرسل عن الطريقين.
وعن جعفر عن أبيه قال: لما استخلف أبو بكر خيّر الناس سبعة أيام، فلمّا كان اليوم السابع، أتاه علي بن أبي طالب فقال: لا نقليك ولا نستقيلك، ولولا أنّا رأيناك أهلاً ما بايعناك.
خرّجه ابن السمان في الموافقة.
وعن سويد بن غفلة: قال لما بايع الناس أبا بكر قام خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس أذكر باللّه، أيّما رجل ندم على بيعتي لما قام على رجليه قال: فقام إليه علي بن أبي طالب ومعه السيف، فدنا منه حتى وضع رجلاً على عتبة المنبر والأخرى على العصا وقال: واللّه لا نقيلك ولا نستقيلك، قدّمك رسول اللّه فمن ذا يوخّرك.
خرّجه في فضائله وقال: هو سند حيث روى في هذا المعنى. وسويد بن غفلة أدرك الجاهلية وأسلم في حياة النبي»(6).
وفي جامع الأصول عن كتاب رزين: «قال أنس: فسمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: أصعد المنبر. فبايعه الناس عامةً. وخطب أبو بكر في اليوم الثالث، فقال بعد أن حمد اللّه وصلّى على رسوله صلّى اللّه عليه وسلم: أما بعد، أيّها الناس، إن الذي رأيتم مني لم يكن حرصاً على ولايتكم، ولكني خفت الفتنة والاختلاف. وقد رددت أمركم إليكم، فولّوا من شئتم.
فقالوا: لا نقيلك»(7).
وفي تاريخ الخميس ما نصّه:
«ذكر غير ابن حبان: إن أبا بكر قام في الناس بعد مبايعتهم إيّاه يقيلهم في بيعتهم ويستقيلهم فيما تحمّله من أمرهم، ويعيد ذلك عليهم، كلّ ذلك يقولون له: واللّه لا نقيلك ولا نستقيلك…»(8).
وأمّا كلمة «وعلي فيكم» فقد اعترف ابن روزبهان بوجودها في الروايات، واللّه العالم بقصد أبي بكر منها، فقد كان بعض مشايخنا يرى أن الكلمة هذه كانت إيعازاً منه إلى ضرورة القضاء على الإمام عليه السلام.
وكيف كان، فإن الظاهر من روايات القضيّة تكرّر الكلام من أبي بكر، لأن في بعضها أنه قاله بعد ثلاثة أيام من البيعة، وفي البعض الآخر أنه كان بعد وفاة الصدّيقة الزهراء عليها السلام… واللّه العالم.
هذا كلّه بالنسبة إلى السند والمتن… وقد رأيت أن لا مناص لهم من الإذعان، والإنكار ليس إلا مكابرةً… .
ثم حاول القوم الإجابة من حيث الدلالة، فذكروا وجوهاً.
(1) منهاج السنّة 5 / 467.
(2) انظر دلائل الصدق
(3) التحفة الإثنا عشرية: 271.
(4) انظر دلائل الصدق 3 / 81 ـ 82 .
(5) صحيح البخاري 4 / 194.
(6) الرياض النضرة 1 / 229.
(7) جامع الأصول 4 / 481.
(8) تاريخ الخميس ـ ذكر بيعة أبي بكر، من الموطن الحادي عشر.