لكن القوم قد اضطربوا في توجيه معنى هذه الكلمة، ولربما اضطرّوا إلى تحريف لفظها:
قال ابن روزبهان في جواب كلام العلاّمة في هذا المقام:
«لم يصح عندنا رواية هذا الخبر. وإن صح كان تحذيراً من أن ينفرد الناس بلا حضور العامّة بالبيعة، ولهذا سمّاه بالفلتة، وكان ذلك لضرورة داعية إليه…».
ففي هذا الكلام ثلاثة أمور:
الأول: التكذيب للخبر من أصله.
والثاني: التصرّف في لفظه من «الفلتة» إلى «الفتنة».
والثالث: تأويل اللّفظ وتوجيه المعنى.
وقال في شرح المواقف:
«وأمّا قوله في بيعة أبي بكر، فمعناه أن الإقدام على مثله بلا مشاورة الغير وتحصيل الاتفاق منه، مظنّة للفتنة العظيمة، فلا يقدمنَّ عليه أحد، على أني أقدمت عليه فسلمت وتيسّر الأمر بلا تبعة»(1).
وقال في شرح المقاصد:
«والجواب: إن المعنى: كانت فجأةً وبغتةً وقى اللّه شرّ الخلاف الذي يكاد يظهر عندها، فمن عاد إلى مثل تلك المخالفة الموجبة لتبديد الكلمة فاقتلوه.
وكيف يتصوّر منه القدح في إمامة أبي بكر، مع ما علم من مبالغته في تعظيمه وفي انعقاد البيعة له…؟»(2).
وقال ابن تيمية:
«والجواب: إن لفظ الحديث سيأتي. قال فيه: فلا يغترنّ امروٌ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتةً تمّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى اللّه شرّها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. ومعناه: إن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريّث ولا انتظار، لكونه كان متعيّناً لهذا الأمر، كما قال عمر: ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.
وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه وتقديم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم له على سائر الصحابة أمراً ظاهراً معلوماً، فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريّث، بخلاف غيره، فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريّث، فمن بايع غير أبي بكر من غير انتظار وتشاور، لم يكن له ذلك.
وهذا، قد جاء مفسّراً في حديث عمر هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح، التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره، وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم، وقد رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال:…» فأورد الخطبة كاملةً(3).
أقول:
وفي هذا الكلام ثلاثة أمور كذلك:
الأول: تصحيح الخبر. فتكذيبه من ابن روزبهان أو غيره جهل أو كذب.
والثاني: دعوى دلالة النصوص على تعيين أبي بكر.
والثالث: توجيه المعنى وتأويل اللّفظ.
وقال عبد العزيز الدهلوي في التحفة:
«والجواب: قد وقع هذا الكلام من عمر جواباً لشخص كان يقول في حياته: لو مات عمر لبايعت فلاناً وجعلته خليفةً، لأن بيعة أبي بكر أيضاً كانت فلتةً من رجل أو رجلين… فمعنى كلام عمر في جواب هذا السائل هو: إن بيعة الواحد أو الاثنين بلا تأمّل ومراجعة للمجتهدين ومشورة لأهل الحلّ والعقد، غير صحيحة…»(4).
وفي مختصر التحفة:
«والجواب: إن هذا الكلام صدر من عمر في زجر رجل كان يقول: إن مات عمر أبايع فلاناً وحدي أو مع آخر، كما كان في مبايعة أبي بكر. ثم استقر الأمر عليها. فمعنى كلام الفاروق في ردّه لهذا القول: إن بيعة رجل أو رجلين شخصاً من غير تأمّل سابق ومراجعة أهل الحلّ والعقد ليست بصحيحة…»(5).
أقول:
وفي هذا الكلام أيضاً أمور ثلاثة:
الأول: الإعتراف بصحة الخبر وثبوته.
والثاني: دعوى دلالة القرائن كإمامة الصّلاة ونحوها على خلافة أبي بكر.
والثالث: إنه قد ثبت عند أهل السنّة وصحّ أن سعد بن عبادة وأمير المؤمنين عليّاً والزبير، قد بايعوا أبا بكر بعد تلك المناقشة، واعتذروا له عن التخلّف في أوّل الأمر.
هذا، ولا يخفى موارد الفرق بين أصل كلام الدهلوي، وماجاء في عبارة الآلوسي بترجمته.
(1) شرح المواقف 8 / 358.
(2) شرح المقاصد 5 / 293.
(3) منهاج السنّة 5 / 469 ـ 470.
(4) التحفة الاثنا عشرية: 270 ـ 271.
(5) مختصر التحفة الاثنى عشرية: 275، الباب الثامن.