نسبة القول بأن الإمام العسكري لم يعقب إلى الطبري
أولاً: إن المرجع المعتمد عليه في مثل هذه الأمور هم (أهل البيت) ومن كان منهم ومن شيعتهم العارفين بأحوالهم، لا الأباعد الذين لا يمتُّون إليهم بصلة، فكيف بالمقاطعين والمناوئين لهم!
وثانياً: قد عرفت أن القائلين بولادة الإمام المهدي ابن الحسن العسكري عليهما السلام من غير شيعتهم كثيرون.
وثالثاً: لقد سبق وأن نسب هذا القول إلى الطبري وعبد الباقي وغيرهما من أهل العلم بالنسب، فقال محمد رشاد سالم في ذيله هناك ما هذا نصه: «قد أشار الأستاذ محب الدين الخطيب في تعليقه على المنتقى من منهاج الاعتدال، تعليق 2 / 3) إلى واقعة حدثت سنة 302، وهي مذكورة في تاريخ الطبري، تبيّن أن الحسن العسكري لم يعقب. وقد ذكر الواقعة عريب بن سعد القرطبي في صلة تاريخ الطبري: 8 / 34 ـ القاهرة ـ 1358 / 1939»(1).
فاكتفى هناك بـ(الإشارة) إلى (الإشارة)، ثم أوضح ذلك هنا قائلاً: «أشرت هناك إلى أن عريب بن سعد القرطبي قد ذكر في (صلة تاريخ الطبري) أن الحسن بن علي العسكري لم يعقب، وخلاصة هذه الواقعة في (تاريخ الطبري: 11 / 49 ـ كتاب الصلة): إن رجلاً زعم أنه محمد بن الحسن المهدي فأمر المقتدر بإحضار ابن طومار نقيب الطالبيين ومشايخ آل أبي طالب فسأله عن نسبته، فزعم أنه محمد بن الحسن بن موسى بن جعفر الرضا، وأنه قدم من البادية، فقال له ابن طومار: لم يعقب الحسن. وكان قوم يقولون: إنه أعقب وقوم قالوا: لم يعقب… الخ»(2).
ثم نقل كلام بعض المعاصرين وهو الدكتور أحمد صبحي!!
هذا غاية ما أمكن الرجل أن يذكره تشييداً وتأييداً لنسبة نفي الإعقاب إلى الطبري وغيره من علماء التواريخ والأنساب!
فابن تيمية لم يذكر لا موضع كلام الطبري وابن قانع، ولا واحداً من أسماء غيرهما من أهل التاريخ والنسب!
وهذا الرجل الناشر لكتابه والمعلّق عليه لم يأت بموضع كلام الطبري ولا غيره مطلقاً، وإنما أشار إلى وجود «واقعة» كما قال، أوردها عريب بن سعد القرطبي في كتاب (صلة تاريخ الطبري)! وهو تارة يكتفي بـ«إشارة الأستاذ محب الدين…» إلى تلك «الواقعة» الحادثة في سنة 302 ويدّعي كونها مذكورة في تاريخ الطبري «لابدّ أن تكون في حوادث السّنة المذكورة!» وهو يزعم أن الواقعة «تبين» أن الحسن العسكري لم يعقب، ثم يضيف أنه «قد ذكر الواقعة عريب…» فكأنها مذكورة في (تاريخ الطبري) و(صلة تاريخ الطبري) معاً في سنة 302. وتارة أخرى: لا ينسب الخبر إلى (الطبري) وإنما ينسبه إلى (عريب) ويقول من قبل: «إن عريب بن سعد القرطبي قد ذكر في صلة تاريخ الطبري أن الحسن بن علي العسكري لم يعقب»!! ثم إنه لم يذكر «الواقعة» بتمامها، وإنما ذكر «خلاصة هذه الواقعة…».
فنقول:
1 ـ بغض النظر عن تكلّمهم في الطبري وكتابه، فلم يقل في (تاريخه) إن الحسن بن علي العسكري لم يعقب، فنسبة القول بذلك إليه كذب.
2 ـ إن (تاريخ الطبري)ينتهي بحوادث سنة 302 وليس فيها الواقعة، فالقول بوجودها فيه كذب.
3 ـ وعبد الباقي بن قانع الأموي البغدادي ـ لو فرض كونه قائلاً بذلك، وفرض أيضاً كونه من أهل التاريخ والنسب ـ مجروح مقدوح فيه، أورده الحافظان الذهبي وابن حجر في (الميزان)(3) و(لسان الميزان)(4) وترجم له الذهبي في(سير أعلام النبلاء) فلم ينقل فيه إلا كلمات الذم والتضعيف(5)… .
لكن الظاهر أنه لم يقل بذلك، وإلا لذكره المقلّدون لابن تيمية، فالنسبة كاذبة.
4 ـ ولم يذكر ابن تيمية اسم أحد من أهل التاريخ والنسب غير الرجلين… ولو كان لأبان ذلك مقلّدوه، فالنسبة كاذبة.
5 ـ وعريب بن سعد (أو سعيد) صاحب (صلة تاريخ الطبري) مجهول، لا ذكر له في كتب الرجال ولا نقل عنه في كتب الحديث أصلاً، فالاعتماد على نقل هكذا شخص لـ(واقعة) لنفي مطلب مثل ما نحن فيه باطل.
6 ـ وعريب القرطبي، هذا لم يذكر ولم يقل (أن الحسن بن علي العسكري لم يعقب) فالنسبة كاذبة.
7 ـ و(الواقعة) المحكيّة في (صلة تاريخ الطبري) لا سند لها، والإستناد إلى واقعة هذا حالها لنفي أمر اعتقادي وللردّ على قول الإمامية، لا يصدر إلاّ من جاهل لا يعرف طريقة الاستدلال، أو من متعصّب مبغض للنبي والآل صلّى اللّه عليه وآله.
8 ـ على أن (الواقعة) لا علاقة لها بـ(المهدي) ولا (الحسن بن علي العسكري)… ولعلّه لذا لم يورد الدكتور المحقق القصّة ومحلّ الشاهد منها… بل أضاف قبل ذكر خلاصتها جملة: «إن رجلاً زعم أنه محمد بن الحسن المهدي» وسترى أن كلتا الجملتين كذب.
9 ـ (الواقعة) كما في (صلة تاريخ الطبري) في حوادث سنة 302 هي: «وفيها جاء رجل حسن البزّة، طيب الرائحة، إلى باب غريب خال المقتدر، وعليه دراعة وخف أحمر وسيف جديد بحمائل، وهو راكب فرساً ومعه غلام، فاستأذن للدخول، فمنعه البواب، فانتهره وأغلظ عليه ونزل فدخل، ثم قعد إلى جانب الخال وسلّم عليه بغير الإمرة. فقال له غريب، وقد استبشع أمره: ما تقول أعزّك اللّه؟ قال: أنا رجل من ولد علي بن أبي طالب، وعندي نصيحة للخليفة لا يسعني أن يسمعها غيره… فاجتهد الوزير والحاجب نصر والخال أن يعلمهم النصيحة ما هي، فأبى حتى أدخل إلى الخليفة… .
وأمر المقتدر أن يحضر ابن طومار نقيب الطالبيين ومشايخ آل أبي طالب… فسأل ابن طومار عن نسبته، فزعم أنه محمد بن الحسن بن علي بن موسى بن جعفر الرضا، وأنه قدم من البادية.
فقال له ابن طومار: لم يعقب الحسن ـ وكان قوم يقولون: إنه أعقب وقوم قالوا: لم يعقب ـ فبقي الناس في حيرة من أمره، حتى قال ابن طومار: هذا يزعم أنه قدم من البادية وسيفه جديد الحلية والصنعة، فابعثوا بالسيف إلى دار الطاق وسلوا عن صانعه وعن نصله.
فبعث به إلى أصحاب السيوف بباب الطاق، فعرفوه واحضروا رجلاً ابتاعه من صيقل هناك، فقيل له: لمن ابتعت هذا السيف؟ فقال: لرجل يعرف بابن الضبعي، كان أبوه من أصحاب ابن الفرات، وتقلّد له المظالم بحلب، فأحضر الضبعي الشيخ، وجمع بينه وبين هذا المدّعي إلى بني أبي طالب، فأقرّ بأنه ابنه، فاضطرب الدّعي وتلجلج في قوله، فبكى الشيخ بين يدي الوزير حتى رحمه ووعده بأن يستوهب عقوبته ويحبسه أو ينفيه.
فضج بنو هاشم وقالوا: يجب أن يشهَّر هذا بين الناس ويعاقب أشدّ عقوبة. ثم حبس الدعيّ وحمل بعد ذلك على جمل وشهَّر في الجانبين، يوم التروية ويوم عرفة، ثم حبس في حبس المصريين بالجانب الغربي»(6).
أقول: فهذه هي (الحكاية) الواردة في (صلة تاريخ الطبري) وهل هي (واقعة) أوْ لا؟ اللّه العالم.. ولكنها كما ترى لا ذكر فيها لـ(المهدي)، بل الرجل ادّعى كونه (محمد بن الحسن بن علي بن موسى بن جعفر الرضا) وهذا غير (المهدي) الذي تقول به الشيعة ويعترف به من غيرهم جماعة، فإنه (محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق) والذي أنكر ابن طومار ـ وغيره ممن أنكر، بناء على صحة الخبر واعتبار ما صدر عنهم من الإنكار ـ هو من أعقاب (الحسن بن علي بن موسى بن جعفر).
وأي ربط لهذا بما نحن فيه، أيها (الدكتور) الأريب! وأيها (الأستاذ الخطيب)؟!
وأمّا قوله: «والإمامية الذين يزعمون أنه كان له ولد يدَّعون أنه دخل السرداب بسامراء وهو صغير… فكيف يكون من يستحق الحجر عليه في بدنه وماله إماماً لجميع المسلمين معصوماً، لا يكون أحد مؤمناً إلا بالإيمان به».
أقول: وهذا واضح البطلان، فإن (الإمامة) مثل (النبوة) لا يعتبر فيها البلوغ. قال اللّه تعالى في عيسى عليه السلام: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً)(7).
وأمّا قوله: «ثم إن هذا باتفاق منهم، سواء قدّر وجوده أو عدمه ـ لا ينتفعون به لا في دين ولا في دنيا…».
فأقول: هذا كذب، بل المتفق عليهم بينهم هو الانتفاع منه في الدّين والدنيا، بل الانتفاع واقع مستمر، ولكن المنافقين لا يعلمون!
وعلى الجملة، فقد أثبت الأصحاب وقرّروا في محلّه من كتب الإمامة: أن الإمامة واجبة على اللّه من باب اللّطف، وأن الأرض لا تخلو من إمام، وأن وجود الإمام لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منَّا.
كما أن الرسالة واجبة على اللّه كذلك، وأنه يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة، وليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة، فكانت الأمم كلّما جاءهم رسول من عند اللّه وقتلوه بغير حق، أرسل إليهم غيره، فكان منهم من يقتل في اليوم الأول من دعوته، حتى جاء نبينا صلّى اللّه عليه وآله فحاربه قومه وآذوه حتى قال: «ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت»… وكان من ذلك أنهم حبسوه في الشعب… لكن لم تبطل نبوته مدّة كونه فيه… .
وكذلك الأئمة من بعده صلّى اللّه عليه وآله أوذوا وقتلوا، فلم يكن إعراض الأمة عنهم ـ واتباعهم لأهل الفسق والفجور بعنوان الخلفاء عن الرسول ـ بمبطل لإمامتهم، كما ليس غيبة الثاني عشر منهم بمبطل لإمامته.
هذا موجز الكلام في هذا المقام، وللتفصيل مجال آخر.
(1) منهاج السنة 1 / 122 هامش.
(2) منهاج السنة 4 / 87 .
(3) ميزان الاعتدال 2 / 532.
(4) لسان الميزان 3 / 383.
(5) سير أعلام النبلاء 15 / 526.
(6) صلة تاريخ الطبري، المطبوع معه. أنظر 34 ـ 35.
(7) سورة مريم: 29 ـ 31.