من موارد جهل الصّحابة بالأحكام
ولا بأس بنقل نصّ عبارة الحافظ ابن حزم الأندلسي الحاكية لجهالات الصّحابة في الأحكام الشرعيّة، وليس فيها شيء عن أمير المؤمنين عليه السلام… فإنه قال:
«ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي اللّه عنهم يبلغه الحديث فيتأول فيه تأويلا يخرجه به عن ظاهره، ووجدناهم رضي اللّه عنهم يقرّون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم، وهكذا قال البراء… قال: ما كلّ ما نحدّثكموه سمعناه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ولكن حدثنا أصحابنا، وكانت تشغلنا رعية الإبل.
وهذا أبو بكر رضي اللّه عنه لم يعرف فرض ميراث الجدّة وعرفه محمد ابن مسلمة والمغيرة بن شعبة، وقد سأل أبو بكر رضي اللّه عنه عائشة: في كم كفِّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله؟
وهذا عمر رضي اللّه عنه يقول في حديث الاستئذان: أُخفي علي هذا من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله؟ ألهاني الصفق في السوق. وقد جهل أيضاً أمر إملاص المرأة وعرفه غيره، وغضب على عيينة بن حصن، حتى ذكَّره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلينَ). وخفي عليه أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته، وخفي على أبي بكر رضي اللّه عنه قبله أيضاً طول مدة خلافته، فلما بلغ عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحداً. وخفي على عمر أيضاً أمره عليه السلام بترك الإقدام على الوباء، وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف.
وسأل عمر أبا واقد اللّيثي عمّا كان يقرأ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في صلاتي الفطر والأضحى، هذا، وقد صلاّهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أعواماً كثيرة.
ولم يدر ما يصنع بالمجوس حتى ذكّره عبد الرحمن بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فيهم. ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور، ولعلّه رضي اللّه عنه قد أخذ من ذلك المال حظّاً كما أخذ غيره منه.
ونسي أمره عليه السلام بأن يتيّمم الجنب فقال: لا يتيّمم أبداً ولا يصلّي ما لم يجد الماء، وذكّره بذلك عمّار.
وأراد قسمة مال الكعبة، حتى احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي عليه السلام لم يفعل ذلك، فأمسك.
وكان يردُّ النساء اللّواتي حضن ونفرن قبل أنْ يودّعن البيت، حتى أخبر بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أذن في ذلك، فأمسك عن ردّهن.
وكان يفاضل بين ديات الأصابع، حتى بلغه عن النبي صلّى اللّه عليه وآله أمره بالمساواة بينها، فترك قوله وأخذ المساواة.
وكان يرى الدّية للعصبة فقط، حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي صلّى اللّه عليه وآله ورّث المرأة من الدّية، فانصرف عمر إلى ذلك.
ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالاً بمهور النبي صلّى اللّه عليه وآله، حتى ذكّرته امرأة بقوله اللّه عز وجل: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا)، فرجع عن نهيه.
وأراد رجم مجنونة حتى أُعلم(1) بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: رفع القلم عن ثلاثة فأمر أن لا ترجم. وأمر برجم مولاة حاطب، حتى ذكّره عثمان بأن الجاهل لا حدّ عليه فأمسك عن رجمها.
وأنكر على حسّان الإنشاد في المسجد، فأخبر هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فسكت عمر.
وقد نهى عمر أن يسمّى بأسماء الأنبياء عليهم السّلام وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح وهو أحد الصحابة الجلّة منهم، ويرى أبا أيوب الأنصاري وأبا موسى الأشعري وهما لا يعرفان إلا بكناهما من الصحابة، ويرى محمد بن أبي بكر الصّديق وقد ولد بحضرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في حجة الوداع، واستفتته أمه إذ ولدته ماذا تصنع في إحرامها وهي نفساء. وقد علم يقيناً أن النبي صلّى اللّه عليه وآله علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شك، وأقرّهم عليها ودعاهم بها ولم يغيّر شيئاً من ذلك، فلما أخبره طلحة وصهيب عن النبي صلّى اللّه عليه وآله بإباحة ذلك أمسك عن النهي عنه. وهمّ بترك الرمي في الحج، ثم ذكّر أن النبي صلّى اللّه عليه وآله فعله فقال: لا يجب لنا أن نتركه.
وهذا عثمان رضي اللّه عنه، فقد رووا عنه أنه بعث إلى الفريعة أخت أبي سعيد الخدري يسألها عما أفتاها به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في أمر عدّتها وأنه أخذ بذلك. وأمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر، فذكّره علي بالقرآن وأن الحمل قد يكون ستة أشهر، فرجع عن الأمر برجمها… .
وهذه عائشة وأبو هريرة رضي اللّه عنهما خفي عليهما المسح على الخفّين وعلى ابن عمر معهما، وعلمه جرير ولم يسلم إلا قبل موت النبي صلّى اللّه عليه وآله بأشهر، وأقرت عائشة أنها لا علم لها به، وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي اللّه عنه.
وهذه حفصة أم المؤمنين سئلت عن الوطي يجنب فيه الواطي أفيه غسل أم لا؟ فقالت: لا علم لي.
وهذا ابن عمر توقع أن يكون حدث نهي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله عن كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي صلّى اللّه عليه وآله فأمسك عنها، وأقرّ أنهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يقل أنه لا يمكن أن يخفى على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة، وهؤلاء إخواننا يقولون فيما اشتهوا، لو كان هذا حقاً ما خفي على عمر.
وقد خفي على زيد بن ثابت وابن عمر وجمهور أهل المدينة إباحة النبي صلّى اللّه عليه وآله للحائض أن تنفر، حتى أعلمهم بذلك ابن عباس وأم سليم فرجعوا عن قولهم.
وخفي على ابن عمر الإقامة حتى يدفن الميت، حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال: لقد فرطنا في فراريط كثيرة. وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحج على الإفراد: إنك تخالف أباك، فقال: أكتاب اللّه أحق أن يتبع أم عمر؟ روينا ذلك عنه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر. وخفي على عبد اللّه بن عمر الوضوء من مسّ الذكر، حتى أمرته بذلك عن النبي صلّى اللّه عليه وآله بسرة بنت صفوان، فأخذ بذلك…(2).
(قال): «وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه، وقد يعرض هذا في آي القرآن، وقد أمر عمر على المنبر بأن لا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره، فذكَّرته امرأة بقول اللّه تعالى: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) فترك قوله وقال: كلّ أحد أفقه منك يا عمر، وقال: امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ. وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فذكّره علي بقول اللّه تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا)مع قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) فرجع عن الأمر برجمها.
وهمّ أن يسطو بعيينة بن حصن إذ قال له: يا عمر ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل، فذكره الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول اللّه تعالى: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وقال له: يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين، فأمسك عمر.
وقال يوم مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: واللّه ما مات رسول اللّه ولا يموت حتى يكون آخرنا، أو كلاماً هذا معناه، حتى قرئت عليه: (اِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)فسقط السيف من يده وخرّ إلى الأرض وقال: كأني واللّه لم أكن قرأتها قط.
قال الحافظ ابن حزم: فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن وقد ينساه ألبتة، وقد لا ينساه بل يذكره ولكن يتأول فيه تأويلا، فيظن فيه خصوصاً أو نسخاً أو معنى مّا، وكلّ هذا لا يجوز اتباعه إلا بنصّ أو إجماع; لأنه رأي من رأى ذلك، ولا يحلّ تقليد أحد ولا قبول رأيه…»(3).
(1) أعلمه أمير المؤمنين علي عليه السلام، والخبر بذلك مشهور، لكن ابن حزم لم يشأ أن يصرح بذلك والحال أنه صرح في الموارد الأخرى باسم القائل!!
(2) الإحكام في اُصول الأحكام 2 / 143 ـ 148.
(3) الإحكام في أصول الأحكام 2 / 237 ـ 238.