كلام للسيد علي بن معصوم المدني
قال السيد علي بن معصوم المدني(1): «إعلم رحمك اللّه تعالى: أن شيعة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليه السلام لم يزالوا في كلّ عصر وزمان ووقت وأوان مختفين في زوايا الاستتار، محتجبين احتجاب الأسرار في صدور الأحرار، وذلك لما منوا به من معاداة أهل الإلحاد ومناواة أولي النصب والعناد، الذين أزالوا أهل البيت عن مقاماتهم ومراتبهم، وسعوا في إخفاء مكارمهم الشريفة ومناقبهم، فلم يزل كلّ متغلّب منهم يبذل في متابعة الهوى مقدوره، ويلتهب حسداً ليطفي نور اللّه، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره.
كما روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر صلّى اللّه عليه وآله أنه قال لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس! إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قتل.
فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به وأسلم، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، وانتهب عسكره وخولجت خلاخل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق قليل.
ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غدروا به، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم، فقتلوه.
ثم لم نزل أهل البيت نستذلّ ونستضام، ونقصى ونمتهن ونحرم، ونقتل ونخاف، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا.
ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم، وقضاة السوء وعمّال السّوء في كلّ بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام.
فقتلت شيعتنا في كلّ بلدة، وقطّعت الأيدي والأرجل على الظنة، من ذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن ونهب ماله وهدم داره. ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه قاتل الحسين عليه السلام.
ثم جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة وأخذهم بكلّ ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال له شيعة علي عليه السلام.
وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني(2) في كتاب (الأحداث) قال: «كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته.
فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة; لكثرة من بها من شيعة علي، فاستعمل عليها زياد بن سميّة وضمّ إليه البصرة، وكان يتتبع الشيعة ـ وهو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام علي ـ فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطرّدهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.
وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل بيته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا إلي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصّلات والكساء والجبّات والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجئ أحد بخبر مزوّر من الأس إلا صار عاملاً من عمّال معاوية، ولا يروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه، وقرّبه، وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً.
ثم كتب إلى عماله: إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصّحابة والخلفاء الأوّلين، ولا يتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب ولشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجري، حتى أشاروا بذكر ذلك على المنابر، والقي إلى معلّمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.
ثم كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة أنه يحبّ عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الديوان وأسقطوا عطائه ورزقه.
وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّث حتى أخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه. فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة.
وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويتقرّبوا بمجالستهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تديّنوا بها.
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا خائف على دمه أو طريد في الأرض.
ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين، وولي عبد الملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة، وولّى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسك والصّلاح والدّين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدّعي من الناس أنهم أيضاً أعداؤه. فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغضّ من علي، ومن عيبه، والطعن فيه، والشنآن له.
حتى أن إنساناً وقف للحجاج، ويقال إنه جدّ الأصمعي عبد الملك بن قريب فصاح به: أيها الأمير: إن أهلي عقُّوني فسمّوني عليّاً، وإني فقير بائس وأنا إلى صلة الأمر محتاج. فتضاحك له الحجاج وقال: للطف ما توسلت به، قد وليناك موضع كذا.
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه(3) وهو من كبار المحدّثين وأعلامهم، في(تاريخه)ما يناسب هذا الخبر وقال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية، تقرّباً إليهم بما يظنّون أنهم يرغمون به أنف بني هاشم.
قال المؤلّف عفا اللّه عنه: ولم يزل الأمر على ذلك سائر خلافة بني أمية لعنهم اللّه، حتى جاءت الخلافة العباسية، فكانت أدهى وأمر وأضرى وأضرّ، وما لقيه أهل البيت عليهم السّلام وشيعتهم في دولتهم أعظم مما مضوا به في الخلافة الأموية كما قيل:
واللّه ما فعلت أمية فيهم *** معشار ما فعلت بنو العباس
ثم شبّ الزمان وهرم، والشأن مضطرب والشنآن مضطرم، والدهر لا يزداد إلا عبوساً، والأيام لا تبدي لأهل الحق إلا بؤساً، ولا معقل للشيعة من هذه الخطة الشنيعة في أكثر الأعصار ومعظم الأمصار إلا الإنزواء في زوايا التقية، والإنطواء على الصبر بهذه البلية(4):
(1) من أكابر العلماء الأدباء، له آثار جليلة في علوم مختلفة، توفي فيما بين سنة 1117 وسنة 1120 على اختلاف الأقوال، وتوجد ترجمته في: البدر الطالع 1 / 428، نزهة الجليس 1 / 209، أبجد العلوم 8 ـ 9، وهدية العارفين 1 / 763.
(2) قال الذهبي بترجمته: «المدائني، الحافظ الصادق أبو الحسن علي بن محمد بن عبد اللّه بن أبي سيف المدائني الأخباري، نزل بغداد، وصنف التصانيف، وكان عجباً في معرفة السير والمغازي والأنساب وأيام العرب، مصدقاً فيما ينقله، عالي الإسناد.. وكان عالماً بالفتوح والمغازي والشعر صدوقاً في ذلك» توفي سنة 224، 225. سير أعلام النبلاء 10 / 400. وتوجد ترجمته في تاريخ بغداد 12 / 54، مرآة الجنان 2 / 83، معجم الأدباء 14 / 124، الكامل في التاريخ 6 / 516 وغيرها.
(3) ترجم له الذهبي وقال: «نفطويه. الإمام الحافظ النحوي العلامة الأخباري أبو عبد اللّه إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان، العتكي الأزدي الواسطي، المشهور بنفطويه، صاحب التصانيف.. وكان ذا سنة ودين وفتوة ومروة، وحسن خلق، وكيس، مات سنة 363» سير أعلام النبلاء 15 / 75 وتوجد ترجمته أيضاً في: تاريخ بغداد 6 / 159، وفيات الأعيان 1 / 47، المنتظم 6 / 277، الوافي بالوفيات 6 / 130، معجم الأدباء 1 / 254، وغيرها».
(4) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 5 ـ 8.