كلام للسيد حيدر الآملي
وقال السيد حيدر الآملي: «ثم لا يغيب عن نظرك: أن الحاكم إذا لم يقتد بالنبي صلّى اللّه عليه وآله في حركاته وسكناته التزم أضدادها، فيحتاج السلطان إلى المعاون والمعاضد والمشير والمساعد له على مقاصده وأغراضه ومطالبه وشهواته، في ارتكاب المحرّمات، وشرب المسكرات، وسماع الغناء، والولوع بالمردان، والتهتك مع النسوان، واجتذاب الأموال من غير حلّها، وعسف الرعيّة وذلّها، فيضطرّ الملك والسلطان إلى شيطان يستره، وفقيه ينصره، وقاض يدلّس له، ومتشدّق يكذب لدولته، ورئيس يسكّن الأمور، وطامع يشهد بالزور، ومشايخ تتباكا، وشباب تتزاكا، ووجيه يهوّن الأحوال، ويثيره على حبّ المال، وزاهد يليّن الصعاب، وفاسق ينادم على الشراب، وعيون تنظر، وألسنة تفجر، حتى ينام الخليفة أمير المؤمنين سكراناً، ويجد على فسوقه أعواناً. ولا تقوم هذه المملكة إلا بدحض أضدادها، ولا تتم دعوة قوم إلا بهتك ]بهلاك[ أعدائها وعنادها.
نظرٌ واعتبار
هل يجب إذا كانت هذه الدعوة لعلي بن أبي طالب عليه السلام وملكها معاوية بن أبي سفيان، ووزيراه عليها عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، وقد خصمه علي بن أبي طالب عليه السلام عليها مدّة إلى أن قتله معاوية، أن يرفع قدر الحسن والحسين صلّى اللّه عليه وآله، وقدر محمد بن الحنفية، وقدر بني هاشم وآل أبي طالب، وأن يكرم عبد اللّه بن العباس،ويراعي حال أصحاب علي أحيائهم والأموات منهم؟ هذا بعيد من القياس والسياسة الدنياوية.
بل يجب على معاوية أن يفعل ما فعل من التدبير في قتل علي عليه السلام وأولاده، وتشتيت شملهم، وسبّ علي على المنابر، وتهوين أمره، ونسخ شرفه من صدور العوام، وبثّ ذلك في العباد والبلاد، وتهديد من صبا إليهم، والتنكيل بمن أثنى عليهم، هكذا مدّة دولته.
ثم أودع في قلوب بني أمية بغض علي وبغض رجاله وآله عليهم السّلام، حتى أدّى الحال إلى قتل الحسن بالسمّ، والحسين بالسيف الذي نهب فيه حرمه، وطيف برأسه في العباد والبلاد.
وهل تمّ ذلك إلا برجال ألبَّاء، عقلاء، علماء فقهاء، ومشايخ فقراء، وأعيان أغنياء، فيستعان بهم على تدبير العوام، وإلقاء الأوهام، وتخويف النفوس، وزجر المتكلّمين عن الخوض في الناموس؟
فلم يزل السبّ واللّعن والطرد والعزل في علي وأولاده ورجاله ألف شهر، نشأ فيها رجال ومات فيها رجال، وابيضّت لهم لحا واسوّدت لحا، وولدت صبيان وأولاد، واستوسقت بلاد وعباد، وساد بمراضي بني أمية من ساد، وانخذل أولاد علي عليه السلام ورجاله وأتباعه ومن يقتفي أثرهم في المدن والأقاليم، لا ناصر لهم ولا معوان، ولا مساعد ولا إخوان، وبذلت على ذلك أموال، ونشأ عليه رجال، وقيلت فيه أقوال، وركبت فيه أهوال، وآل الأمر في الآل إلى ما آل. وجملة الباعة والفلاحون غافلون عن مقاصد الملوك والسلاطين وكبار الشياطين، وانستر من ذلك خفايا واشتهرت قضايا، وجرى من طباع أهل المدن وعوامّهم ما أراده الملك وتربّى الناس على أغراضه، وأثمرت المحبة لما عند الملك وبغض آل محمد ورجالهم، وتحدّثت السّوقة بذلك في الأسواق، وجال بين الناس الشقاق، وصار أتباع الملك مستظهرين بالكلام والجدال والخصام، ومن يكره الملك تحت السبّ والقتل والطرد والجلد، وانساقت المنافع إلى معاضد الملك بيده ولسانه، واحتكمت دولة بني أمية ومعاضدها، وذلل بالقهر والجور معاندها، وستر المتقي عقيدته، وكتم العاقل عبادته، واستمرت الأمور بين الجمهور، واشتدّت الأيام والعصور، وسارت الكتب المصنفة بذلك في البلاد، والتبس ما فيها من المقاصد على أكثر العباد، والناس عبيد الدنيا وفي طباعهم حبّ العاجلة، وعند الملك السيف والقلم والدينار والدرهم، وآل محمد وأتباعهم تحت الخوف وبعضهم تحت السيف، ولا يكاد يخفى عن معرفتك سرعة إجابة العوام إلى أغراض الحكام خوفاً وطمعاً، يتقلّبون تحت إرادته كيف شاء، وأنّى شاء، ومتى شاء!
ومع ذلك، الصّلوات قائمة، والأذان مرتفع، والصّوم معتبر، والمواقيت والحج مستطاع، والزكاة مأتية، والجهاد قائم، والناس على مراتبهم، والأسواق منعقدة، والسّبل مطرقة، والملاهي بين العوام مبسوطة، وليس في البلاء والشقاء والخوف والخفاء غير أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأشياعه وأتباعه.
ولمّا استوثق الأمر لبني مروان بسبب قتل عثمان مقت علي بن أبي طالب عليه السلام ورجاله في قلوب الناس، وثبت بينهم هذا الالتباس، ونفخ الشيطان وقال باللّسان هلك الملك وهان، ونشأ في الشريعة أصول، ونما لها فروع، وبسقت لها أفنان، فأثمرت بها، ثم لم يغرسها الحق، ولا سقاها الرسول، ولا جناها العقل، ولا أكل ثمرها الأولياء، ولا طعمها الفقراء، فظهر بذلك مذاهب، واختلفت فيه مسائل، ونسخت أخبار وطويت آثار، واستقر العالم على الخلاف والإختلاف وعدم الإيتلاف، والجبلة الحيوانيّة بحسب مرباها ومنشأها، كما أخبر الصادق الأمين: يولد المولود على الفطرة، وإنما أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه فينجسانه.
ثم تلاشت دولة بني أمية ونشأت دولة بني العباس، فوجدوا بني أميّة قد وطأوا لهم المملكة لأمر لا يحتاجون فيه إلى مصانعة آل علي عليه السلام ومداراتهم، لعلمهم أن المملكة بالأصالة لهم، فأقرّوا الوظائف التي قررّها بنو أمية في إخماد نار الطالبيين على حالها، وساسوا الناس بها، وتناولوها هنيّة مريّة، وأمدّوا العالم المعاون على أغراضهم بالأموال، واستخدموا على ذلك الرجال، ووهبوا على ذلك مقامات ومراتب وولايات وهبات وصدقات.
فلما أحسّ الطالبيون بولاية بني عباس، وأخذت حقوقهم بغير حق، هاجروا إلى الأطراف والأوساط، خوفاً من القتل والسياط، وخاطبوهم في القيام عن هذا البساط. فندب لهم العباسيون الرجال، وأعدّوا لهم القتال، وتولاّهم المنصور، حتى قتل منهم الألوف، وشرّد منهم الألوف، ومن وقف على (مقاتل الطالبيين) عرف ما جرى من بني العباس على آل علي عليه السلام.
حتى حطّموا شجرتهم، وفرّقوا كلمتهم، وأفنوا أموالهم، وأبادوا رجالهم. واضطر بنو العباس إلى إقامة دعوتهم، ونشر كلمتهم، ومراعاة مملكتهم، وحراستها من آل علي عليه السلام، نسقاً على عناد بني أمية. فلما استقرّت دولتهم، وأهيبت صولتهم، حتى فهموا أن شجرة الطالبيين متفرقة، والأغصان ذابلة، والأفنان ناقصة الري، مخضودة الشوك، يابسة الشرب. فعندها استقرّوا وسكنوا، ولم يأمنوا حتى علموا أن جميع الرعايا في البلاد والآفاق المشرقية والمغربية أعداء لآل محمد صلّى اللّه عليه وآله، يفضّلون أصحابه عليهم، ولا يأنسون بذكرهم… .
ثم انهمكت الخلفاء والملوك من العرب والعجم في استعمالهم الكذب وارتكاب المنكرات، التي لا تجب لمثلهم على سبيل النبوة المحمديّة والخلافة العلويّة التي فرضها اللّه تعالى وسنّها محمد صلّى اللّه عليه وآله وأمر بها ونصّ عليها. فاضطرّوا إلى وضع المدارس مشغلة للعوام التي ألفت بالقلوب والأوهام السماطات الدسمة والملابس الفاخرة والأنعام، وسموا كلّ رئيس من الرعاة إماماً، ليصح لهم الخلافة المملوكة بينهم، ويصير الخليفة الغاصب لكلّ إمام منهم إماماً، وهم يعلمون أنهم يرتكبون الآثام ويأكلون الحرام، وأصلحُ الساكنين بالمدرسة داعي الخليفة الغاصب، قائماً بعرضه، مناوئاً لمعاديه، مرتقباً على من يطعن فيه، مكفّراً لمن لا يواليه، يأخذ على ذلك الجوائز السنية، والمساكين العليّة، والمراكب البهيّة، والمطاعم الشهيّة، والملابس الفاخرة، والمقامات الباهرة، والتنعم والتلذذ في المنام، والتقلّب في مستراح الحمام، وأعلا مكانه في المدرسة أن يناقض ويعارض ويدّعي قيام الحجة على الروافض.
وتتابع الناس على ذلك طبقاً بعد طبق وجيلاً بعد جيل، واندرجوا عليه خلفاً إثر سلف، ونشأ مذهب الجبريين بين العوام، واندرج في الخاصّ والعام، واستتر عمال الشياطين ومكراء الفراعنة من السلاطين، والعامي بعقده على هذه المذاهب أسرع من انعقاده على معرفة اللّه، وهو مذهب يغوث ويعوق ونسر، واشتغل علماء الجمهور بالخلاف والشقاق، وألقوا من تابعهم من الباعة والفلاحين في يمين الطلاق، وغشيت المدارس وأحدث التفاضل والتنافس، وانتظم العالم على صورة من قال غيرها وإن كان صادقاً كفر، ومن التبس بسواها احتقر»(1).
(1) الكشكول في ما جرى على آل الرسول: 19 ـ 25.