كلام لأبي جعفر الإسكافي
وقال الشيخ أبو جعفر الإسكافي في الردّ على عثمانيّة الجاحظ: «لولا ما غلب على الناس من الجهل وحبّ التقليد، لم نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانية، فقد علم الناس كافة: أن الدولة والسلطان لأرباب مقالتهم، وعرف كلّ أحد أقدار شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم وظهور كلمتهم وقهر سلطانهم وارتفاع التقية عنهم، والكرامة والجائزة لمن روى الأخبار والأحاديث في فضل أبي بكر، وما كان من تأكيد بني أمية لذلك، وما ولَّده المحدِّثون من الأحاديث، طلباً لما في أيديهم. فكانوا لا يألون جهداً ـ في طول ما ملكوا ـ أن يخملوا ذكر علي وولده، ويطفئوا نورهم، ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم، ويحملوا الناس على شتمهم وسبّهم ولعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم، فكانوا بين قتيل وأسير وشريد وهارب ومستخف ذليل وخائف مترقب.
حتى أن الفقيه والمحدِّث والقاصّ والمتكلّم ليقدّم إليه ويتوعّد بغاية الإيعاد وأشدّ العقوبة أن لا يذكروا من فضائلهم، ولا يرخّصوا لأحد أن يطيف بهم، حتى بلغ من تقيّة المحدِّث أنه إذا ذكر حديثاً عن علي كنّى عن ذكره فقال: قال رجل من قريش، وفعل رجل من قريش. ولا يذكر عليّاً ولا يتفوّه باسمه.
ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله، ووجّهوا الحيل والتأويلات نحوها، من خارجي مارق، وناصب حنق، ونابت مستبهم، وناشئ معاند، ومنافق مكذب، وعثماني حسود يتعرض فيها ويطعن، ومعتزلي قد نفذ في الكلام، وأبصر علم الإختلاف، وعرف الشبه، ومواضع الطعن، وضروب التأويل، قد التمس الحيل في إبطال مناقبه، وتأوّل مشهور فضائله، فمرّة يتأوّلها بما لا يحتمل، ومرّة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض، ولا تزداد مع ذلك إلا قوة ورفعة ووضوحاً واستنارة.
وقد علمت أن معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من بني مروان أيّام ملكهم ـ وذلك نحو ثمانين سنة ـ لم يدعوا جهداً في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله وستر مناقبه وسوابقه… .
وقد تعلمون أن بعض الملوك ربّما أحدثوا قولاً أو ديناً لهوى، فيحملون الناس على ذلك، حتى لا يعرفون غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب، وتوعّد على ذلك، بدون ما صنع هو وجبابرة بني أمية وطغاة بني مروان بولد علي وشيعته، وإنما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها، لإمساك الآباء عنها، وكف المعلّمين عن تعليمها، حتى لو قرئت عليهم قراءة عبد اللّه وأُبيّ ما عرفوها ولظنوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان، لألف العادة وطول الجهالة، لأنه إذا استولت على الرعيّة الغلبة، وطالت عليهم أيام التسلّط، وشاعت فيهم المخافة، وشملتهم التقيّة، اتفقوا على التخاذل والتناكب، فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم، وتنقص من ضمائرهم، وتنقض من مرائرهم، حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنّة التي كانوا يعرفونها.
ولقد كان الحجّاج ومن ولاّه كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني أمية، على إخفاء محاسن علي وفضائله وفضائل ولده وشيعته وإسقاط أقدارهم، أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد اللّه وأُبيّ، لأن تلك القراءات لا تكون سبباً لزوال ملكهم وفساد أمرهم وانكشاف حالهم، وفي اشتهار فضل علي عليه السلام وولده وإظهار محاسنهم، بوارهم وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم، فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها.
وأبى اللّه أن يزيد أمره وأمر ولده إلا استنارة وإشراقاً، وحبّهم إلا شغفاً وشدّة، وذكرهم إلا انتشاراً وكثرة، وحجّتهم إلاّ وضوحاً وقوّة، وفضلهم إلا ظهوراً، وشأنهم إلا علوّاً، وأقدارهم إلا إعظاماً، حتى أصبحوا بإهانتهم إيّاهم أعزّاء، وبإماتتهم ذكرهم أحياء، وما أرادوا به وبهم من الشرّ تحوّل خيراً.
فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدّمه السّابقون، ولا ساواه فيه القاصدون، ولا يلحقه الطالبون، ولولا أنها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسنن المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد، وكان الأمر كما وصفناه».
Menu