قال قدس سره: وهذا يستلزم أشياء شنيعة:… قال أبو هذيل العلاّف: حمار بشر أعقل من بشر… .
الشرح:
أبو الهذيل العلاّف: هو شيخ البصريين في الإعتزال، له كتب ومقالات، توفي سنة 227. وبشر هو معاصره: بشر بن المعتمر البغدادي، المتوفى سنة 210، كان يقول: الإنسان يخلق اللّون والطعم والرائحة والسمع والبصر على سبيل التولّد. كذا في المواقف(1) وغيرها.
كلام الإمام الكاظم عليه السلام في أن المعصية ممّن؟
قال قدس سره: ومنها: التقسيم الذي ذكره مولانا وسيّدنا موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، وقد سأله أبو حنيفة… .
الشرح:
أبو حنيفة هو: النعمان بن ثابت إمام الحنيفة المتوفّى سنة 150. وقد اعترض ابن تيمية بأن: هذه الحكاية لم يذكر لها إسناد فلا تعرف صحّتها، كيف والكذب عليها ظاهر، فإن أبا حنيفة من المقرّين بالقدر باتفاق أهل المعرفة به وبمذهبه، فكيف يحكى عن أبي حنيفة أنه استصوب قول من يقول أن اللّه لم يخلق أفعال العباد؟
وأيضاً: فموسى بن جعفر وسائر علماء أهل البيت متفقون على إثبات القدر، والنقل عنهم بذلك ظاهر معروف، وقدماء الشيعة كانوا متفقين على إثبات القدر والصفات، وإنما شاع فيهم ردّ القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة في دولة بني بويه.
وأيضاً: فهذا الكلام المحكي عن موسى بن جعفر يقوله أصاغر القدريّة وصبيانهم، وهو معروف من حين حدثت القدرية، قبل أن يولد موسى بن جعفر، فإن موسى بن جعفر ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة، قبل الدولة العباسية بنحو ثلاث سنين، وتوفي ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة. قال أبو حاتم: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين. والقدريّة حدثوا قبل هذا التاريخ، بل حدثوا في أثناء المائة الأولى، في زمن الزبير وعبد الملك.
وممّا يبين أن هذه الحكاية كذب، أن أبا حنيفة إنما اجتمع بجعفر بن محمد، وأمّا موسى بن جعفر فلم يكن ممن سأله أبو حنيفة ولا اجتمع به، وجعفر بن محمد هو من أقران أبي حنيفة، ولم يكن أبو حنيفة يأخذ عنه مع شهرته بالعلم، فكيف يتعلّم من موسى بن جعفر. إنتهى كلامه(2).
أقول:
هذه الحكاية لها إسناد في كتب الإمامية، بل متنها يشهد بصحّتها. لكن ليس من دأب المتكلّمين ذكر الأخبار بأسانيدها في الكتب الكلاميّة. أمّا أهل السنّة فلا يروون مثل هذا الخبر، لأنه طعن في مذهبهم، ومبيِّن لجهل من يقولون بإمامته، والإفحام له ممن كان في الظاهر صبيّاً، وهو من أئمة المسلمين بإعترافهم.
وكون أبي حنيفة من المقرّين بالقدر بالإتفاق، لا ينافي صحّة الخبر ووقوعه، فكم من دليل متقن سمعه أبو حنيفة وغيره من أهل الضلالات وعجزوا عن الجواب عنه ولم يرجعوا عن ضلالتهم، ولو كان عدم رجوع أبي حنيفة عن مقالته دليلاً على كذب الخبر، لكان عدم رجوع المشركين والزنادقة الذين قرئ عليهم القرآن وألزموا بالأدلّة والبراهين، دليلاً على كذب القرآن وبطلان أدلّة العقائد الحقّة.
أمّا أهل البيت وشيعتهم فهم على أنه «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين» وهذا شيء معروف متواتر عنهم، مذكور في كتبهم مثل الكافي للكليني والتوحيد للصدوق، وهو مذكورٌ عنهم في كتب غيرهم أيضاً، أخذوه عن سيّدهم أمير المؤمنين عليه السّلام في مواضع مختلفة من كلماته، منها: ما قاله للرجل الشامي عند منصرفه من حرب صفّين… فالكذب نسبة غير هذا المذهب إليهم.
وأمّا أن هذا الكلام والتقسيم المحكي عن الإمام عليه السلام يقوله أصاغر القدريّة وصبيانهم وهو معروف من حين حدثت القدريّة. فقد حكى حكاية لم يذكر لها إسناداً، وكأنه نسي ما أورده على العلاّمة قبل سطور!! لكنا نطالبه فقط بأسماء من وصفهم بـ(أصاغر القدريّة وصبيانهم) الذين حكى عنهم ذلك، بل باسم واحد منهم… .
و(موسى بن جعفر عليه السلام) إمام من أئمة المسلمين، منصوص عليه من قبل جدّهم رسول ربّ العالمين صلّى اللّه عليه وآله، لكن القوم عدلوا عنه وعن آبائه، ووالوا أناساً لا نسب لهم ولا علم ولا دين… .
ثم إن أبا حنيفة تعلّم من الإمام جعفر بن محمد عليه السلام ـ كما سيأتي ـ لا أنه اجتمع به فحسب، وسواء كان تعلّم من الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أو لا، فإن في الحكاية أنه أتى ـ ومعه محمد بن مسلم ـ الإمام جعفر بن محمد عليه السلام فواجه غلاماً حدثاً، فقيل له: هذا موسى ابنه.
«فالتفت إليه قائلاً: يا غلام أين يضع الغريب في بلدتكم هذه؟
قال: يتوارى خلف الجدار، ويتوقّى أعين الجار وشطوط الأنهار، ومسقط الثمار، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، فحينئذ يضع حيث شاء.
ثم قال: يا غلام ممّن المعصية؟
قال: يا شيخ، لا تخلو من ثلاث: إما أن تكون من اللّه وليس من العبد شيء، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله، وإمّا أن تكون من العبد ومن اللّه، واللّه أقوى الشريكين، فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه، وإمّا أن تكون من العبد وليس من اللّه شيء، فإن شاء عفى وإن شاء عاقب..».
رواه الشيخ المفيد، وتلميذه السيد المرتضى، والشيخ الطبرسي في كتابه الذي صرّح في أوّله بشهرة أسانيد الأخبار التي أوردها فيه(3).
(1) المواقف: 416.
(2) منهاج السنة 3 / 138 ـ 140.
(3) الفصول المختارة من العيون والمحاسن: 72 ـ 73، الإحتجاج على أهل اللجاج 2 / 158 و 159.