قول أهل السنّة بإمامة بني أمية و بني العباس
قال ابن تيمية: «أهل السنّة لا يقولون إن الواحد من هؤلاء كان هو الذي يجب أن يولّى دون من سواه، ولا يقولون إنه تجب طاعته في كلّ ما يأمر به، بل أهل السنّة يخبرون بالواقع ويأمرون بالواجب، فيشهدون بما وقع ويأمرون بما أمر اللّه ورسوله…»(1).
أقول: لا يخفى الإضطراب في كلمات الرجل.. فلا يثبت ما قاله العلاّمة ولا ينكره، والجواب عمّا قاله في هذا المقام:
أولاً: إن أهل السنّة يقولون بإمامة الذين ذكرهم العلامة، وتشهد بذلك كتبهم المؤلفة في أحوال الخلفاء، فللسيوطي كتاب (تاريخ الخلفاء وأمراء المسلمين).
وثانياً: إن ما حكاه عن أحمد من أن «أصول السنة عندنا… ومن ولي الخلافة…» صريح في اعتقاد أهل السنّة بإمامة بني أمية ثم بني العباس، كما نسب إليهم العلاّمة.
وثالثاً: لقد قبل كبار علماء أهل السنّة وقضاتهم المناصب والرواتب من هؤلاء عن رغبة ورضا، وهل قبول ذلك إلا القول بإمامتهم؟.
ورابعاً: هل المطلوب من أهل السنّة هو الإخبار والشهادة بالواقع، أو الإخبار عن اعتقادهم بما يجب أن يكون وموقفهم تجاه ما كان؟.
وخامساً: سلَّمنا أنهم لا يقولون إن الواحد من هؤلاء كان هو الذي يجب أن يولّى دون من سواه، ولا يقولون إنه تجب طاعته، لكنا نسألهم: هل انقطعت الإمامة بعد الخلفاء الأربعة وبقيتم بلا إمام؟ وإن كانت مستمرة، فمن الذي يجب أن يولَّى دون من سواه ويجب طاعته بعد الخلفاء؟ وبمن تقتدون وتأتمّون بعد أولئك؟ وبأي ملاك؟ أبنصّ أو شورى أو بيعة عامّة؟.
وسادساً: إن صريح كلماته في المواضع المختلفة، يقتضي اعتقاده هو وأهل السنّة بإمامة بني أمية وبني العباس، من ذلك قوله: «فليست هذه أقوال أئمة أهل السنّة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليهم، ولا يصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة…».
وبالجملة، لقد تحاشى الرجل من أن يعترف بصراحة ووضوح بإمامة ملوك بني أمية وبني العباس; لأن الإلتزام بإمامة هؤلاء يستتبع الإلتزام بلوازمها، ثم إنا نسأله: من الذي مكَّن يزيد بن معاوية ـ مثلاً ـ من رقاب المسلمين؟ ومن الّذي سلط من مكَّنه عليهم؟.
ومع ذلك كلّه يقول الرجل: «ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة، وأنه لو تولّى من هو دون هؤلاء من الملوك الظلمة لكان ذلك خيراً من عدمهم، كما يقال: ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام. ويروى عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: «لابدّ للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة. قيل له: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال: يؤمن بها السبيل ويقام بها الحدود ويجاهد بها العدوّ ويقسّم بها الفئ». ذكره علي بن سعيد في كتاب الطاعة والمعصية»(2).
وكأنه يتغافل عن أن البحث في الإمام الحق والإمامة الشرعيّة عن اللّه ورسوله; لكونها خلافة ونيابة عنه. وبعبارة أخرى: إن الكلام في الإمام الذي أمر اللّه ورسوله بطاعته وترك معصيته في جميع أوامره ونواهيه، لا فيمن تسلّط على رقاب المسلمين بمال أو عشيرة أو مؤازرة من ذوي القدرة والسلطان، فخلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، فهذا ليس بإمام ولا يجوز تولِّيه، وإن ترتب على وجوده آثار حسنة فقيل بأن وجوده خير من عدمه.
فهل الأئمة الذين أمر اللّه ورسوله بطاعتهم هم الأئمة الإثنا عشر من أهل البيت عليهم السّلام، أوّلهم علي بن أبي طالب، وآخرهم الخَلَف الحجة المنتظر كما يقول الإمامية الإثنا عشرية، أو أن الأئمة بعد النبي صلّى اللّه عليه وآله أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي بن أبي طالب ثم معاوية ثم بنو أمية وبنو العباس، ومن بعدهم ممن تولّى وكان له قدرة وسلطان؟.
إن البحث في الإمامة الحقة والولاية الشرعيّة نيابة عن اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وآله، فهل يقول بإمامة بني أمية وبني العباس أم لا؟ إن كان يقول بإمامتهم، فقد شاركهم في آثامهم وجرائمهم، وأدخله اللّه في الآخرة مدخلهم; لأن من قال بإمامة أحد، فقد تولاّه واعتقد بحقيّته ورضي بأفعاله وحشر معه كما دلّت عليه الأخبار المتفق عليها، وإن كان لا يقول بإمامتهم، فمن هم أئمته بعد الأربعة؟ وبمن يقتدي ويأتم في جميع هذه الأزمنة حتى زمانه، فمن كان إمامه في عصره؟ ومن هم أئمة آبائه وأبناء مذهبه الذين كانوا قبله؟ وقد اتفق الفريقان على أن النبي صلّى اللّه عليه وآله قال: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».
ثم إن مقام (الإمامة) لا يزول بإعراض الناس وعدم مساعدة أهل الشوكة منهم له، كما لم تزل نبوة الأنبياء بذلك.
وأيضاً: لا يزول مقام الإمامة بغيبة الإمام عن الناس إذا دعته الضرورة إلى ذلك، كما لم تزل نبوة نبينا صلّى اللّه عليه وآله بغيبته في الشعب… .
وأيضاً: لا يثبت المقام المذكور لأحد بحصول القدرة وسلطان الشوكة، فلا توجب القدرة والسلطة وجوب الإطاعة وحرمة المعصية من قبل اللّه ورسوله. نعم، عندما يكون الإمام الحق ذا قدرة وشوكة وسلطان، تتحقق مصلحة جعل اللّه عز وجلّ إيّاه إماماً لعموم الخلق، وإلا تحققت به مقاصد الإمامة بقدر ما بيده من القدرة والسلطان.
(1) منهاج السنة 1 / 547.
(2) منهاج السنة 1 / 547 ـ 548.