وعلى هذا الأساس، قال أهل الكلام منهم بانعقاد الإمامة ببيعة واحد ورضا أربعة ـ كما اعترف به الرجل ـ وقال به القاضي أبو يعلى الحنبلي(1).
وقال التفتازاني: «اختيار أهل الحلّ والعقد وبيعتهم من غير أن يشترط إجماعهم على ذلك، ولا عدد محدود، بل ينعقد بعقد واحد منهم»(2).
وقال القاضي العضد: «وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أن ذلك لا يفتقر إلى الإجماع، إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، بل الواحد والاثنان من أهل الحلّ والعقد كاف، لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا بذلك، كعقد عمر لأبي بكر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان…»(3).
وأمّا قوله: «بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها…» ففيه:
أوّلاً: أنه ظاهر في عدم لزوم النص، ولا أقلّ من ظهوره بل صراحته في عدم كفاية النص لانعقادها.
وثانياً: إنه لا فرق بين ما نسبه إلى (أهل السنة) وما نسبه إلى (أهل الكلام)، إذ ليس المراد من (أهل الشوكة) إلا (أهل الحلّ والعقد) في اصطلاح أهل الكلام، فلا يريد القائل بانعقادها بموافقة واحد مطلق الواحد ولو من سوقة المسلمين الذين لا أثر لبيعة الآلاف منهم… ويوضّح ذلك قوله: «فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكاً بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلاّ أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم، بحيث يصير ملكاً بذلك، وهكذا كلّ أمر يفتقر إلى المعاونة عليه لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه».
وثالثاً: إن الإمامة ما هي إلاّ نيابة عن النبوّة في كلّ ما هو من شؤونها، وهل تتوقف النبوّة على موافقة أهل الشوكة؟. إنه لو تمّ ما ذكره، لزم إنكار نبوّة الأنبياء الذين لم يوافقهم أهل الشوكة بل حاربوهم وقتلوهم.
ورابعاً: إن المقصود من الإمامة استمرار وظائف النبوّة، يقوم بها الإمام نيابة عن النبي صلّى اللّه عليه وآله، ومن الواضح أن هذا المقصود لا يعتمد على القدرة والسلطان، بل القدرة والسلطان من أسباب حصوله، وهذا صريح الآية المباركة: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)(4).
وخامساً: إن أمر النبي صلّى اللّه عليه وآله بتأمير المسافرين أحدهم إرشادي، وليس معنى قوله فيما روي عنه: «لا يحلّ لثلاثة يكونون في سفر إلا أن يؤمّروا واحداً منهم» حرمة ترك ذلك، بالإجماع… فلا يكوننّ هذا ونحوه دليلاً على أن الإمارة بيد الناس، وأنها تتحقق لكلّ من أمّروه سواء كان عادلاً أو فاسقاً، فبطل الاستدلال بالحديث لما ذهب إليه وقال: «فإذا أمّره أهل القدرة منهم صار أميراً».
وأمّا ما حكاه عن أحمد، فهو على فرض صدوره وظهوره فيما يدّعيه، باطل بالوجوه المذكورة. على أن ما حكاه ثانياً عنه شاهد بعدم صحّة النقل الأول عنه; لأن التعريف الذي ذكره لا يصدق على (من غلب المسلمين بالسيف براً كان أو فاجراً) فأيّ إمام من الأئمة (أجمع عليه المسلمون، كلّهم يقول هذا إمام)، وكان قد غلبهم بالسيف وهو فاجر؟ أن هذا غير جائز وغير واقع.
ثم قال هذا الرجل: «والكلام هنا في مقامين أحدهما: في كون أبي بكر كان هو المستحقّ للإمامة وأن مبايعتهم له ممّا يحبّه اللّه ورسوله. فهذا ثابت بالنصوص والإجماع. والثاني: أنه متى صار إماماً فذلك بمبايعة أهل القدرة له».
أقول: هذا الكلام ليس هنا موضعه، بل سيأتي بالتفصيل، وإنما أشار العلاّمة في هذا المقام إلى مبنى القوم في انعقاد الإمامة . وأمّا البحث التفصيلي عن إمامة الثلاثة فليس في مقامين بل مقامات.
وأمّا «كون أبي بكر كان هو المستحق للإمامة» فأوّل الكلام، ومن الضروري البحث أوّلاً: عن أن الإمامة تحصل بالتفضّل أو الإستحقاق؟، ثم عمّا لا بدّ من اتصاف الشخص به من الأوصاف أو توفّره فيه حتى يكون إماماً، ثم نرى هل كان أبو بكر كذلك حتى يكون هو الإمام؟
وأمّا «أن مبايعتهم له ممّا يحبّه اللّه ورسوله» فهل مرجع الضمير خصوص (أهل الشوكة) أو (عموم المسلمين)؟ إن كان المراد الأوّل، فقد عرفت ما فيه، وإن كان المراد الثاني، فهو كذب. والظاهر أنه يريد الأوّل، لاعترافه بعد ذلك بأنه «لو قدّر أن بعض الناس كان كارهاً للبيعة لم يقدح ذلك في مقصودها» وقال: «وأمّا أبو بكر فتخلّف عن بيعته سعد»(5) مع كونه من (أهل القدرة)!!، وكأن الرجل قد غفل عمّا استدلّ به من كلام أحمد من أن «الإمام، الذي يجمع عليه المسلمون كلّهم يقول: هذا إمام»!!
(1) الأحكام السلطانية: 23.
(2) شرح المقاصد 2 / 281.
(3) المواقف 3 / 590.
(4) سورة الحديد: 25.
(5) منهاج السنّة 1 / 536.
Menu