حديث: «إن فاطمة أحصنت…».
هذا الحديث أيضاً كذّب به ابن تيمية بل ادّعى الإتفاق على أنه كذب، وهذا نصّ عبارته: «والحديث الذي ذكره عن النبي صلّى اللّه عليه وآله عن فاطمة، وهو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
ويظهر كذبه لغير أهل الحديث أيضاً، فإن قوله: (إن فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها اللّه وذريتها على النار)، باطل قطعاً، فإن سارة أحصنت فرجها ولم يحرّم اللّه جميع ذريّتها على النار. قال تعالى: (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحينَ)… .
وأيضاً: فصفيّة عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أحصنت فرجها، ومن ذريّتها محسن وظالم. وفي الجملة، اللّواتي أحصنّ فروجهنّ لا يحصي عددهنّ إلا اللّه عز وجلّ، ومن ذريّتهنّ البرّ والفاجر والمؤمن والكافر.
وأيضاً: ففضيلة فاطمة ومزيّتها ليست بمجرد إحصان الفرج، فإن هذا تشارك فيه فاطمة وجمهور نساء المؤمنين، وفاطمة لم تكن سيدة نساء العالمين بهذا الوصف بل بما هو أخصّ منه، بل هذا من جنس حجج الرافضة، فإنهم لجهلهم لا يحسنون أن يحتجّوا ولا يحسنون أن يكذبوا.
وأيضاً: فليست ذريّة فاطمة كلّهم محرّمين على النار… فإن الرافضة رفضوا زيد بن علي بن الحسين ومن والاه وشهدوا عليه بالكفر والفسق، بل الرافضة أشدّ الناس عداوة ـ إمّا بالجهل وإما بالعناد ـ لأولاد فاطمة رضي اللّه عنها»(1).
أقول:
كيف يكون هذا الحديث كذباً باتفاق أهل المعرفة بالحديث وقد رواه:
الحاكم، والخطيب البغدادي، وأبو بكر البزار، وأبو يعلى الموصلي، والطبراني، وأبو نعيم، وابن حجر، والسيوطي، والمتقي الهندي… وغيرهم؟ وقال الحاكم: «صحيح»(2)؟
وهذه فضيلة اختصّت بها سيّدة نساء العالمين، وإن شاركتها في الوصف المذكور غيرها من فضليات النساء.
قال المناوي: «(فحرّمها) أي بسبب ذلك الإحصان حرّمها (اللّه وذريّتها على النار) أي حرّم دخول النار عليهم.
فأمّا هي وأبناؤها، فالمراد في حقهم التحريم المطلق، وأمّا من عداهم فالمحرّم عليهم نار الخلود، وأمّا الدخول، فلا مانع من وقوعه للبعض للتطهير. هكذا فافهم. وقد ذكر أهل السير أن زيد بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ـ رضي اللّه عنهم ـ خرج على المأمون…» فذكر الخبر(3).
وقال الزرقاني بشرح (المواهب اللدنية): «وروي عن ابن مسعود ـ رفعه ـ : إنما سمّيت فاطمة بإلهام من اللّه لرسوله ـ إن كانت ولادتها قبل النبوة، وإن كانت بعدها فيحتمل بالوحي ـ لأن اللّه قد فطمها ـ من الفطم وهو المنع، ومنه فطم الصبي ـ وذريّتها عن النار يوم القيامة. أي: منعهم منها، فأمّا هي وابناها فالمنع مطلق، وأمّا من عداهم فالممنوع عنهم نار الخلود، فلا يمتنع دخول بعضهم للتطهير. ففيه بشرى لآله صلّى اللّه عليه وآله بالموت على الإسلام، وأنه لا يختم لأحد منهم بالكفر.
نظيره ما قاله الشريف السمهودي في خبر الشفاعة لمن مات بالمدينة، مع أنه يشفع لكلّ من مات مسلماً. أو: إن اللّه يشاء المغفرة لمن واقع الذنوب منهم إكراماً لفاطمة وأبيها صلّى اللّه عليه وآله. أو: يوفقهم للتوبة النصوح ولو عند الموت ويقبلها منهم. أخرجه الحافظ الدمشقي ابن عساكر.
وروى الغساني والخطيب وقال: فيه مجاهيل، مرفوعاً: (إنما سميت فاطمة لأن اللّه فطمها ومحبيها من النار) ففيه بشرى عميمة لمن أحبها. وفيه التأويلات المذكورة.
وأمّا ما رواه أبو نعيم والخطيب: (أن عليّاً الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصّادق سئل عن حديث: إن فاطمة أحصنت فرجها فحرمها اللّه وذريّتها على النار. فقال: خاصّ بالحسن والحسين). وما نقله الأخباريون عنه من توبيخه لأخيه زيد حين خرج على المأمون… .
فهذا من باب التواضع والحثّ على الطاعات وعدم الاغترار بالمناقب وإن كثرت… وإلاّ فلفظ ذريّة لا يخصّ بمن خرج من بطنها في لسان العرب (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ الآية..) وبينهم وبينه قرون كثيرة، فلا يريد بذلك مثل علي الرضا مع فصاحته ومعرفته لغة العرب.
على أن التقييد بالطائع يبطل خصوصية ذريّتها ومحبّيها. إلا أن يقال: للّه تعذيب الطائع، فالخصوصيّة أن لا يعذّبه إكراماً لها. واللّه أعلم.
والحديث الذي سئل عنه أخرجه أبو يعلى والطبراني والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود، وله شواهد.
وترتيب التحريم على الإحصان من باب إظهار مزيّة شأنها في ذلك الوصف، مع الإلماح ببنت عمران، ولمدح وصف الإحصان، وإلا فهي محرّمة على النار بنصّ روايات أخر»(4).
(1) منهاج السنّة 4 / 62 ـ 64.
(2) المستدرك على الصحيحين 3 / 152.
(3) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 2 / 586 ـ 587.
(4) شرح المواهب اللدنية 3 / 203.