في أن أبا بكر طلب الأمر لنفسه
قال قدس سره: فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق، وبايعه أكثر الناس طلباً للدنيا… .
الشرح:
قال ابن تيمية: «قوله: فبعضهم طلب الأمر لنفسه… وهذا إشارة إلى أبي بكر، فإنه هو الذي بايعه أكثر الناس، ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه، لا بحق ولا بغير حق، بل قال: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: إما عمر بن الخطاب وإما أبا عبيدة. قال عمر: فواللّه لأن أقدَّم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثمّ أحبّ إليّ من أن أتأمرّ على قوم فيهم أبو بكر. وهذا اللفظ في الصحيحين.
وقد روي عنه أنه قال: أقيلوني أقيلوني. فالمسلمون اختاروه وبايعوه لعلمهم بأنه خيرهم، كما قال له عمر يوم السقيفة بمحضر من المهاجرين والأنصار: أنت سيّدنا وخيرنا وأحبّنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله. ولم ينكر ذلك أحد. وهذا أيضاً في الصحيحين.
والمسلمون اختاروه كما قال النبي صلّى اللّه عليه وآله في الحديث الصحيح لعائشة: أدعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه الناس من بعدي. ثم قال: يأبى اللّه والمؤمنون أن يتولّى غير أبي بكر.
فاللّه هو ولاّه قدراً وشرعاً، وأمر المؤمنين بولايته، وهداهم إلى أن ولُّوه من غير أن يكون طلب ذلك لنفسه»(1).
أقول:
من المعلوم أن أبا بكر قد طلب الأمر لنفسه، فهو الذي احتجّ على الأنصار فخصمهم كما يدّعون.
فإن قيل: الإحتجاج على القوم أمر وطلب الأمر لنفسه أمر آخر. قلنا: إذا لم يكن أبو بكر طالباً شيئاً لنفسه، فلماذا رجع من السنح ومن جيش أسامة مخالفاً للّه ورسوله؟
فإن قيل: إنما رجع للوداع مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد بلغه شدّة وجعه. قلنا: وهل كان للرسول في رجوعه ـ حتى للوداع معه ـ رضى؟
ثم لمّا توفي صلّى اللّه عليه وآله فلماذا لم يحضر تجهيزه، بل أسرع ومعه عمر وأبو عبيدة نحو السقيفة حيث اجتمع الأنصار للنظر في أمر الخلافة؟
وبعد، فقد ناقض ابن تيمية نفسه بتصريحه بأن أبا بكر ـ وكذا عمر وعثمان ـ ادّعوا الإمامة وطلبوا الأمر ودعوا الناس إلى طاعتهم، وسيأتي نصّ كلامه في البحث حول آية المودّة.
وأمّا قوله: «أقيلوني» الذي ذكره الرجل بقوله: «وقد روي عنه» ولم يذكر راويه فما معناه؟ وما لفظه الكامل؟ ومتى قاله؟ وسيأتي الكلام عليه في محلّه.
وأمّا قوله: «فالمسلمون اختاروه وبايعوه لعلمهم بأنه خيرهم». فكذب، لأن المسلمين لم يختاروه… وتلك قضايا السقيفة والصراع بين المهاجرين والأنصار الحاضرين فيها، وأين كان سائر المسلمين؟ نعم، بايعه عمر وأبو عبيدة، ثم حُمِل الناس على ذلك فبايعه أكثرهم، ولم يبايعه كثيرون من أعلام المسلمين… ولعلّنا نتعرّض لوقائع السقيفة بشيء من التفصيل في الموضع المناسب.
والإستدلال بقوله المخرج في الصحيحين مردود، لأن أخبار الصحيحين ليست بحجة. وإذا كان الملاك للتقدّم هو الأحبيّة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والأفضليّة والسيادة، كما يروون عن عمر مخاطباً لأبي بكر… فهذه الصفات مجتمعة في علي عليه السلام، للأحاديث الصحيحة المرويّة في كتب القوم، كحديث خيبر، وحديث الطائر المشوي وغيرهما مما سيأتي في محلّه.
وأمّا الحديث «إنه قال لعائشة…» ففيه:
أولاً: إن أحاديث الصحيحين ليست بحجة.
وثانياً: إن عائشة متهمة في النقل في أمثال المقام في الأقل.
وثالثاً: إن هذا الحديث بالخصوص موضوع في مقابلة حديث القرطاس الصحيح عند الفريقين.
هذا، وممّا يشهد بأنه إنما رجع إلى المدينة لطلب الأمر لنفسه، وأن النبي صلّى اللّه عليه وآله ما قال لعائشة: «ادعي لي أباك…» بل أعرض عنه لدى حضوره عنده… وأنه لم يكن أحبّ الناس إليه صلّى اللّه عليه وآله: ما أخرجه جماعة من أكابر القوم من أنه صلّى اللّه عليه وآله لما حضره الموت قال: «ادعوا لي حبيبي» أو «عليّاً» فدعوا له أبا بكر «فوضع رأسه» أو «سكت»… ثم أعاد الكلمة، فدعي له عمر، فصنع ما صنع أوّلاً… حتى دعي له علي… وأمر بانصراف القوم من حوله…(2).
(1) منهاج السنّة 2 / 50 ـ 52.
(2) مسند أحمد 1 / 356، تاريخ الطبري 2 / 439، الرياض النضرة 2 / 180، ذخائر العقبى: 72.