قال ابن تيمية: «تمثيل هذا بقصة عمر بن سعد طالباً للرياسة والمال، مقدّماً على المحرَّم لأجل ذلك، يلزم منه أن يكون السابقون الأوّلون بهذه الحال.
وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية، ولمّا وقعت الفتنة اعتزل الناس في قصره بالعقيق… فإذا لم يحسن أن يشبَّه بابنه عمر أيشبَّه به أبو بكر وعمر وعثمان؟
هذا، وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه، بل يفضّلون محمداً ويعظّمونه ويتولّونه، لكونه آذى عثمان وكان من خواصّ علي لأنه كان ربيبه، ويسبّون أباه أبا بكر ويلعنونه، فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك فمدحوه على قتل الحسين، لكونه كان من شيعة عثمان ومن المنتصرين له، وسبّوا أباه سعداً لكونه تخلّف عن القتال مع معاوية والانتصار لعثمان، هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلاّ من جنس الرافضة.
بل الرافضة شرّ منهم، فإن أبا بكر أفضل من سعد، وعثمان كان أبعد من استحقاق القتل من الحسين، وكلاهما مظلوم شهيد رحمه اللّه… .
ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله، أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية، وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين»(1).
أقول:
أولاً: لقد شبّه العلاّمة حال (البعض الذي طلب الأمر بغير حق) بحال عمر بن سعد، ولم يشبّه حال السّابقين الأوّلين بحاله حتى «يلزم أن يكون السّابقون الأوّلون بهذه الحال»، فما قاله هذا الرجل باطل.
وثانياً: إن سعد بن أبي وقاص ممن تنازل عن الإمارة في الشورى لعثمان بن عفان، ثم لمّا حاصر المسلمون ـ من الصحابة والتابعين ـ عثمان خذله ولم ينصره، حتى قتل عثمان وسعد مختف في خارج المدينة في (قصره) خوفاً من المسلمين الثائرين… ومن كان هذا حاله لا يوصف بأنه «أزهد الناس في الإمارة والولاية» كما لا يوصف من كان له (قصر) في ذلك الزمان بالزهد مطلقاً.
ومن طرائف الأخبار: ما حكاه الحافظ ابن حجر بترجمة محمد بن مسلمة: «أنه كان عند عمر معدَّاً لكشف الأمور المعضلة في البلاد، وهو كان رسوله في الكشف عن سعد بن أبي وقاص حين بنى القصر بالكوفة. قال: وقال ابن المبارك في الزهد… بلغ عمر بن الخطاب أن سعد بن أبي وقاص اتّخذ قصراً وجعل عليه باباً وقال: انقطع الصوت، فأرسل محمد بن مسلمة ـ وكان عمر إذا أحبّ أن يؤتى بالأمر كما يريد بعثه ـ فقال له: إئت سعداً فأحرق عليه بابه، فقدم الكوفة، فلما وصل إلى الباب أخرج زنده فاستورى ناراً ثم أحرق الباب، فأخبر سعد فخرج إليه فذكر القصة»(2).
ومن هذا الخبر تظهر أمور منها: إن سعداً كان يحبّ العيش في القصور أينما كان، وأين هذا من الزهد؟
وثالثاً: إنه لا يقاس عمر بن سعد بمحمّد بن أبي بكر، ولا فعله بفعله، كما لا يقاس عثمان بسيّدنا الحسين سيّد شباب أهل الجنة وسبط الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه وآله.
فأمّا محمد بن أبي بكر، فقد ورد في حقّه ما لم يرد في حق عمر بن سعد عشر معشاره، وقد اشترك ـ إن ثبت ـ مع الصحابة وسائر المسلمين في النهي عن المنكر، لا طلباً للدنيا بل عن علم واعتقاد بأنه جهاد في سبيل اللّه، بخلاف عمر بن سعد، فإن صريح أشعاره ـ التي لم ينكرها ابن تيمية ولا غيره ـ «علمه بأن في قتل الحسين النار» وأنه اختار ذلك بعد أن خُيِّر بينه وبين الرئاسة وملك الري… .
وأيضاً: فإن محمد بن أبي بكر، كان قد أمر عثمان بقتله مع أصحابه في كتاب أرسله إلى عامله، في قصة مشهورة، وعمر بن سعد لم يكن بالنسبة إليه ـ ولا إلى غيره ـ شيء من الحسين عليه السلام.
على أن القوم ـ سواء كان فيهم محمد أو لم يكن ـ ما تعمّدوا قتل عثمان، وإنما طالبوه بأن يخلع نفسه، لما ظهر من أحداثه ، فعندما ألحّ حاصروه، لكنه أبى واغترّ باجتماع نفر من أوباش بني أمية يدفعون عنه، حتى انتهى الأمر بالتدريج إلى القتل وكان ما كان. وعمر بن سعد يصرّح في أشعاره بأنه جاء ليقتل الحسين مع علمه بأن في قتله النار، بغية الوصول إلى ملك الري… وكذلك كان أصحابه وجنوده… .
ورابعاً: إن السبب الأهمّ في تعظيم المسلمين وتجليلهم لمحمد بن أبي بكر ليس مشاركته في قتل عثمان ـ بناء على صحة الخبر، فإن جماعة من أهل العلم نفوه كما في الإستيعاب ـ وإنما ثناء أمير المؤمنين عليه السلام عليه وتفضيله. قال ابن عبد البر: «وكان علي بن أبي طالب يثني على محمد بن أبي بكر ويفضّله، لأنه كانت له عبادة واجتهاد»(3).
وخامساً: عدم الطعن في عمر بن سعد لما فعل بل الاعتذار له بما ذكر، يكشف عن نصب شديد وعداء مقيت، إذ لا يتفوّه مسلم بأن غاية الأمر في هذا الباب أنه اعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف بها، ولا يعبر عن قتل المسلم بغير حق بـ(معصية) فضلاً عن قتل ابن رسول اللّه وأولاده وأصحابه… .
وسادساً: إن قتل الحسين عليه السلام ذنب لا يقاس به شيء من الذنوب الكبائر، فضلاً عن غيرها، حتى يقال: «هذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين». فلو أن أهل العالم بأسره اشتركوا في قتل نبي من الأنبياء أو وصيّ من الأوصياء لأدخلهم اللّه النار. ومن الواضح أن تهوين هذا الفعل الشنيع الفظيع رضىً به، ومن رضي بفعل قوم أشرك معهم فيه.
ثم قال ابن تيميّة: «وأما الشيعة فكثير منهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ومعاداة النبي عليه السلام، كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم من الداخلين في الشيعة… وأول هؤلاء بل خيارهم هو المختار بن أبي عبيدة الكذاب، فإنه كان أمين الشيعة، وقتل عبيد اللّه بن زياد، وأظهر الانتصار للحسين وقتل قاتله.
بل كان هذا أكذب وأعظم ذنباً من عمر بن سعد، فهذا الشيعي شرّ من ذلك الناصبي، بل والحجّاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيدة، فإن الحجّاج كان مبيراً كما سمّاه النبي صلّى اللّه عليه وآله لم يسفك الدماء بغير حق، والمختار كان كذاباً يدّعي الوحي وإتيان جبريل إليه…»(4).
أقول:
وهذا الفصل من كلامه أيضاً يشتمل على أكاذيب ودعاوى وافتراءات.. وكلّ ذلك ذبّاً عن عمر بن سعد، بل هو في الحقيقة ذبّ ودفاع عمّن ولاّه وعمّن شيّد أركان سلطان بني أمية الظالمين، وعمّن أسّس أساس الظّلم والجور في الإسلام! نعم، إن النواصب ليعلمون جيّداً بأن الطعن في عمر بن سعد طعن في معاوية، والطّعن فيه طعن في الأوّلين… .
فمَن الباطنية؟ وما فعلوا؟ وهل هم من الشيعة حقاً؟
وهل كان المختار بن أبي عبيدة كذاباً؟
وهل كان مع ذلك أمين الشيعة؟
وكيف يكون قاتل قاتل الحسين أعظم ذنباً من قاتل الحسين عليهما السلام؟
وهل أن الحجاج الثقفي لم يسفك دماً بغير حق؟
وهل كان خيراً من المختار؟
إن الدخول في البحث عن هذه القضايا يبّعدنا عن المقصود، وإنما نريد التأكيد على أن هذا الرجل يحاول تبرير ما فعله أمراء حكّام الجور، حتى لا ينتهي الطعن إلى الحكّام أنفسهم… ويحاول الطعن في كلّ من انتصر لأهل البيت، لشدة بغضه وعدائه لهم وإن كان يحاول التستر على ذلك… .
لقد ثبت تأريخياً ـ وشهد من أنصف ـ بأن الذين «قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ومعاداة النبي صلّى اللّه عليه وآله» هم غير الشيعة، كما لا يخفى على من راجع ولاحظ ما أحدثه بنو أمية والزبير، ومن تأخر عنهم من الملوك والحكام، بل من تقدّم عليهم، في دين الإسلام… .
أفهل حرَّم شيعي ما كان حلالاً على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله؟
وهل منع شيعي من الشهادة برسالته في الأذان؟
وهل صلّى شيعي صلاة الجمعة يوم الأربعاء؟
وهل رمى شيعي القرآن حتى مزّقه؟
وهل هدم شيعي الكعبة ورماها بالمنجنيق؟
وممّا يشهد بما ذكرنا من أن غرض الرجل الحماية عن حكّام الجور وعمّال الظلمة، لئلاّ ينتهي الطعن إلى أمراء الفاسقين أنفسهم… تناقضاته في كلماته، فتارة يقول بأن الحجاج «لم يسفك دماً بغير حق»، وأخرى يقول ـ في تقديم الحجّاج على المختار بزعمه ـ : «وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس»، وثالثة يصفه بأنه: «كان لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم»! وتجد في (المدخل) بعض التفصيل.
(1) منهاج السنّة 2 / 65 ـ 68.
(2) الإصابة في معرفة الصحابة 6 / 29.
(3) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 1367.
(4) منهاج السنّة 2 / 68 ـ 70.