جهادهما
قال قدس سره: وجاهدا في سبيل اللّه حتى قتلا. ولبس الحسن عليه السلام الصّوف تحت ثيابه الفاخرة من غير أن يشعر أحداً بذلك.
الشرح:
قال ابن تيمية: «وأمّا قوله: وجاهدا في اللّه حق جهاده حتى قتلا. فهذا كذب عليهما، فإن الحسن تخلّى عن الأمر وسلّمه إلى معاوية ومعه جيوش، وما كان يختار قتال المسلمين قط، وهذه متواترة في فضائله. وأما موته فقيل: إنه مات مسموماً، وهذه شهادة له وكرامة في حقّه، لكن لم يمت مقاتلاً. والحسين رضي اللّه عنه ما خرج مقاتلاً…»(1).
أقول:
لقد ذكر العلاّمة عن الإمامين السبطين أمرين، أحدهما: إنهما جاهدا في اللّه حق جهاده. والآخر: إنهما قتلا حال كونهما مجاهدين في اللّه حق جهاده، فأيّهما كذب عليهما؟
كأن هذا الرجل يجهل أو يتجاهل أن (الجهاد) في اللّه لا يختص بـ(القتال) وأن (القتل) في سبيل اللّه و(الشهادة) لا يختص بـ(السيف)؟!
وإذا عرفت أن الوقوف مطلقاً أمام الكفر والجور (جهاد) وأن الموت في تلك الحال (شهادة) عرفت من الكاذب!!
ثم قال ابن تيمية: «وأمّا قوله عن الحسن إنه لبس الصوف تحت ثيابه الفاخرة، فهذا من جنس قوله في علي إنه كان يصلّي ألف ركعة. فإن هذا لا فضيلة فيه، وهو كذب.
أقول:
إن هذا الرجل، إمّا لا يفهم معنى العبادة والزهد وجهاد النفس، وإمّا أن العناد لأهل البيت عليهم السّلام يحمله على إنكار حتى مثل هذه المناقب والمراتب لهم… .
لكن العلاّمة قد كتب لمن يفهم العبادة وترويض النفس، ويعترف بأن ذلك من الفضائل المؤهلة لأصحابها للإقتداء بهم في تلك الأعمال وغيرها، وليشير إلى أن الفضل في أن يلبس الإنسان الخشن للّه فلا يعلم بذلك أحداً، لا أن يلبسه للخلق ويتظاهر بذلك بين الناس فيجلب قلوبهم ويشتهر بالزهد فيهم، كما كان يصنع غيرهم، حتى صار الزهد علماً لهم، وألّفت في ضلالاتهم الكتب، وجاء هذا الرجل يقول: «وهذه كتب المسلمين التي ذكر فيها زهّاد الأمة ليس فيهم رافضي»!
بين الحسين وإبراهيم ابن رسول اللّه
قال قدس سره: وأخذ النبي يوماً الحسين عليه السلام على فخذه الأيمن وولده إبراهيم على فخذه الأيسر، فنزل عليه جبرئيل عليه السلام وقال: إن اللّه لم يكن ليجمع لك بينهما فاختر من شئت منهما… .
الشرح:
قال ابن تيمية: «هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم، ولا يعرف له إسناد، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث، وهذا الناقل لم يذكر لنا إسناده ولا عزاه إلى كتب الحديث، لكن ذكره على عادته من روايته أحاديث سائبة، بلا زمام ولا خطام، والنقل المجرّد بمنزلة سائر الدعاوى، ثم يقال: هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وهو من أحاديث الجهّال»(2).
أقول:
أوّلاً: قولك: هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم ولا يعرف له إسناد، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث. كذب كما ستعلم.
وثانياً: ليس من دأب المؤلّفين في الكتب الكلاميّة ذكر الأحاديث المستدلّ بها بالإسناد ، فهذه كتب الكلام كالمواقف وشرحها، والمقاصد وشرحها، وكتب البيضاوي وغيرها، تذكر فيها الأحاديث بلا أسانيد، ومن هنا جاء من بعدهم فألّفوا الكتب في تخريج أحاديث تلك الكتب، فإن كان ما ذكرته حقاً توجّه إلى الجميع.
وثالثاً: إنه كثيراً ما يعزو العلاّمة الحديث إلى ناقله، فليس من عادته ما ذكرته.
ورابعاً: إذا كان النقل المجرّد بمنزلة سائر الدعاوي، فلماذا تقتصر أنت في كثير من الموارد بالنقل المجرّد؟
وخامساً: إن كان ما أورده العلاّمة لم ينقله أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث، فلماذا وصفته بالحديث وحكمت عليه بالوضع؟ وكيف قام الإتفاق من أهل المعرفة بالحديث على وضع ما ليس له وجود في شيء من كتب الحديث؟
وبعد; فمن رواة الحديث الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، وهو من أهل العلم عندهم! في كتابه تاريخ بغداد، وهو من كتبهم المعتبرة!
قال: «أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقري قال: نبأنا محمد بن الحسن النقاش قال: زيد بن الحباب قال: نبأنا سفيان الثوري، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن أبي العباس قال: كنت عند النبي صلّى اللّه عليه وآله على فخذه الأيسر ابنه إبراهيم، وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي، تارة يقبل هذا وتارة يقبل هذا، إذ هبط عليه جبريل عليه السلام بوحي من ربّ العالمين، فلمّا سرى عنه قال: أتاني جبريل من ربي فقال لي: يا محمد، ربّك يقرأ عليك السلام ويقول لك: لست أجمعهما لك، فافد أحدهما بصاحبه. فنظر النبي صلّى اللّه عليه وآله إلى إبراهيم فبكى، ونظر إلى الحسين فبكى، ثم قال: إن إبراهيم أمّه أمة، ومتى مات لم يحزن عليه غيري، وأم الحسين فاطمة، وأبوه علي ابن عمي، لحمي ودمي، ومتى مات حزنت ابنتي فاطمة وحزن ابن عمي وحزنت أنا عليه، وأنا أوثر حزني على حزنهما. يا جبريل تقبض إبراهيم، فديته بإبراهيم. قال: فقبض بعد ثلاث. فكان النبي صلّى اللّه عليه وآله إذا رأى الحسين مقبلاً قبّله وضمّه إلى صدره ورشف ثناياه وقال: فديت من فديته بابني إبراهيم»(3).
أقول:
وابن تيميّة راجلٌ في علم الحديث، فيقلّد ـ في الأغلب ـ ابن الجوزي في طعنه في مناقب أهل البيت عليهم السّلام، وقد أدرج ابن الجوزي ـ كعادته ـ هذا الحديث في كتاب الموضوعات(4)، لأن راويه ـ وهو أبو بكر ابن النقّاش ـ قد كذّبه الرجاليّون.
وأهل العلم يعلمون بأنّ ابن الجوزي متسرّع في رمي الأحاديث بالوضع، ولذا تكلّم غير واحد من الحفّاظ فيه وفي كتابه المذكور، وسنتعرّض لذلك في محلّه المناسب.
هذا أوّلاً.
وثانياً: لقد وجدناهم في كثير من المواضع، يعتمدون على رواية النقاش وأقواله في الأحاديث والرّجال، ممّا يدلُّ على أنّ لتكلّمهم فيه سبباً آخر، فحاله حال الحافظ ابن خراش الّذي تكلّموا فيه واعتمدوا عليه كثيراً.
وللكلام عن مثل هذه الامور مجال آخر.
(1) منهاج السنة 4 / 41 ـ 42.
(2) منهاج السنّة 4 / 45.
(3) تاريخ بغداد 2 / 200 ـ 201.
(4) كتاب الموضوعات 1 / 407.