ترجمة أبي نؤاس
وهو: الحسن بن هاني، ولد بالأهواز أو البصرة في سنة 136، أو 145، وتأدّب على أبي زيد وأبي عبيدة، وقرأ كتاب سيبويه ولزم خلف الأحمر، وصحب يونس بن حبيب الجرمي النحوي، وتلا القرآن على يعقوب.
وروى الحديث عن: أزهر بن سعد، وحمّاد بن زيد، وحمّاد بن سلمة، وعبد الواحد بن زياد، ومعتمر بن سليمان، ويحيى القطان.
وحدّث عنه جماعة من الأئمة ومشاهير العلماء، منهم: الشافعي، وأحمد بن حنبل، وغندر. وكان يقال: الشافعي شاعر غلب عليه الفقه، وأبو نؤاس فقيه غلب عليه الشعر.
وقد أثنى عليه غير واحد من كبار الأدباء والمتكلّمين، كالأصمعي والجاحظ والنظام، ونظمه في الذروة، وهو في الطبقة الأولى من المولَّدين، وشعره عشرة أنواع وهو مجيد في العشرة.
وقد اعتنى بشعره جماعة من الفضلاء منهم: أبو بكر الصّولي، وقال يعقوب بن السكّيت: «إذا رويت الشعر عن امرئ القيس والأعشى من أهل الجاهليّة، ومن الإسلاميين جرير والفرزدق، ومن المحدثين عن أبي نؤاس، فحسبك».
ثم إنه اتصل بالخلفاء والوزراء وعاشرهم ومدحهم، ولمّا كانت الخلاعة والمجون كثيرة عندهم، فقد اتخذ شعره تلك الصبغة، حتى نقلت عنه أشياء كثيرة لا حقيقة لها.
ولابن منظور الإفريقي صاحب لسان العرب جزء في أخبار أبي نؤاس، وهو الثالث من مختار الأغاني المطبوع في دمشق، وقد صدر بمقدّمة جيّدة بيّن فيها أن أغلب ما ينسب إلى أبي نؤاس من المجون والخلاعة كذب ملفّق لا تصح نسبته إليه بحجج ناصعة وأدلّة واضحة، ومما يشهد بذلك استماع كبار الأئمة لأشعاره المختلفة، فقد أنشدوا سفيان بن عيينة قول أبي نؤاس:
ما هوىً إلا له سببُ *** يَبتدي منه وينشعبُ
فتنت قلبي محجبّة *** وجهها بالحسن منتقب
خلَّته والحسن تأخذه *** تنتقي منه وتنتخب
فاكتست منه طرائقه *** واستردّت بعض ما تهب
فهي لو صيَّرتْ فيه لها *** عودةً لم يُثْنها إرب
صار جدّاً ما مزحت به *** ربّ جدٍّ جرَّه اللّعب
فقال ابن عيينة: «آمنت بالذي خلقها».
وعن ثعلب قال: «دخلت على أحمد بن حنبل فقال: في أيّ شيء نظرت من العلوم؟ فقلت: في اللّغة والشعر. قال: رأيت بالبصرة جماعة يكتبون عن رجل الشعر، قيل لي هذا أبو نؤاس، فتخلّلت الناس ورائي فلما جلست إليه أملى علينا:
إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل *** خلوتُ ولكن في الخلاء رقيب
ولا تحسبنّ اللّه يغفل ساعة *** ولا آثماً يخفى عليه يغيب
لهونا عن الآثام حتى تتابعت *** ذنوبٌ على آثارهنّ ذنوب
فيا ليت أن اللّه يغفر ما مضى *** ويأذن في توباتنا فـنتوب»
وعن الشافعي قال: دخلنا على أبي نؤاس في اليوم الذي مات فيه وهو يجود بنفسه، فقلنا: ما أعددت لهذا اليوم؟ فأنشأ يقول:
تعاظمني ذنبي فلمّا قرنته *** بعفوك ربّي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل *** تجود وتعفو منَّةً وتكرُّما
ولولاك لم يغو بإبليس عابد *** وكيف وقد أغوى صفيّك آدما»
ولقي شعبة أبا نؤاس فقال له: «يا حسن حدّثنا من طرفك. فقال:
حدّثنا الخفاف عن وائل *** وخالد الحذَّاء عن جابر
ومسعرٌ عن بعض أصحابه *** يرفعه الشيخ إلى عامر
قالوا جميعاً أيّما طفلة *** عُلِّقَها ذو خُلُق طاهر
فواصلته ثمّ دامت له *** على وصال الحافظ الذاكر
كانت لها الجنّة مفتوحة *** ترتع في مرتعها الزاهر
وأيّ معشوق جفا عاشقاً *** بعد وصال دائم ناضر
ففي عذاب اللّه بعداً له *** وسحقُ دائم وداحر
فقال له شعبة: إنك لجميل الأخلاق، وإني لأرجو لك».
وقال ابن خلكان: «وما أحسن ظن أبي نؤاس بربّه عز وجلّ حيث يقول:
فكثِّر ما استطعتَ من الخطايا *** فإنك بالغ ربّاً غفورا
ستبصر إن وردت عليه عفواً *** وتلقى سيّداً ملكاً كبيرا
تعضّ نـدامة كفّيك ممّا *** تركت مخافة النار سرورا»
وتوفي أبو نؤاس ببغداد سنة خمس أو ست أو ثمانية وتسعين ومائة.
روى الخطيب بإسناده عن محمد بن نافع قال: «كان أبو نؤاس لي صديقاً، فوقعت بيني وبينه هجرة في آخر عمره، ثم بلغني وفاته فتضاعف علي الحزن، فبينا أنا بين النائم واليقظان إذا أنا به.
فقلت: أبو نؤاس؟
قال: لات حين كنية.
قلت: الحسن بن هاني؟
قال: نعم.
قلت: ما فعل اللّه بك؟
قال: غفر لي بأبيات قلتها هي تحت ثنيّ وسادتي.
فأتيت أهله، فلما أحسّوا بي أجهشوا بالبكاء، فقلت لهم: هل قال أخي شعراً قبل موته؟ قالوا: لا نعلم إلا أنه دعا بدواة وقرطاس وكتب شيئاً لا ندري ما هو. قلت: ائذنوا لي أدخل، قال: فدخلت إلى مرقده، فإذا ثيابه لم تحرّك بعد، فرفعت وسادة لم أر شيئاً، ثم رفعت أخرى فإذا برقعة فيها مكتوب:
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة *** فلقد علمت بأن عفـوك أعـظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن *** فمن الذي يدعو ويرجو المجرم
أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعاً *** فإذا رددت يدي فمن ذا يرحـم
ما لي إليك وسيلة إلا الرّجا *** وجميل عفوك ثم إني مسلم»
أقول:
هذه ترجمة أبي نؤاس بإيجاز، وهي تفيد في مجملها: أن الرجل كان فقيهاً محدّثاً عالماً أديباً، وقد كانت تصدر منه أشياء، ولكن لم يكن بحيث يهجره الأئمة عليهم السّلام والفقهاء وأهل العلم والدّين ويقاطعونه، ثم إنه قد تاب من ذلك حتى قال ابن الجوزي: «لا أوثر أن أذكر أفعاله المذمومة، لأني قد ذكرت عنه التوبة في آخر عمره، وإنما كان لعبه في أول العمر»(1).
(1) تاريخ بغداد 7 / 436، المنتظم 10 / 16، وفيات الأعيان 1 / 373، تاريخ ابن كثير 10 / 227، سير أعلام النبلاء 9 / 279 ـ ولاحظ الهامش ـ الوافي بالوفيات 12 / 283 وغيرها.