ما لاقاه من المتوكّل
قال قدس سره: وإنما أشخصه المتوكل لأنه كان يبغض علياً عليه السلام… .
الشرح:
وهذا مشهور لا ينازع فيه أحد، وهو الذي هدم قبر الحسين عليه السلام وما حوله من الدور، وأمر أن يزرع، ومنع الناس من زيارته(1) فقال البسامي أبياتاً منها:
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا *** في قتله فتتبعوه رميما
وقال الذهبي: «وكان المتوكّل فيه نصب وانحراف»(2).
وقال ابن الأثير في حوادث 236: «في هذه السنة، أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي عليه السلام، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فنادى عامل صاحب الشرطة بالناس في تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام حبسناه في المطبق. فهرب الناس وتركوا زيارته، وحرث ]خرّب[ وزرع.
وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولّى عليّاً وأهله بأخذ المال والدم.
وكان من جملة ندمائه عبادة المخنَّث، وكان يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه وهو أصلع، ويرقص بين يدي المتوكل والمغنون يغنّون: قد أقبل الأصلع البدين، خليفة المسلمين! يحكي بذلك عليّاً عليه السلام!والمتوكل يشرب ويضحك»(3).
والعجب أنه مع ذلك يصفه بعضهم قائلاً: «استُخلِف المتوكل فأظهر السنّة وتكلّم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وبسط السنة ونصر أهلها»(4).
ولعلّهم يريدون من «السنّة» القول بقدم القرآن.
وقال السيوطي بعد خبر: «استفدنا من هذا أن المتوكل كان متمذهباً بمذهب الشافعي، وهو أوّل من تمذهب من الخلفاء»(5).
ثم الأعجب ما جاء فيه ـ بعد حكاية ما فعل بابن السكيت وقصته مشهورة ـ : «وكان المتوكل رافضياً»(6).
لكني لا أستبعد أن يكون التحريف من النسّاخ أو الناشرين للكتاب.
قال قدس سره: فبلغه مقام علي بالمدينة وميل الناس إليه فخاف منه، فدعا يحيى بن هرثمة، فأمره بإشخاصه، فضج أهل المدينة لذلك خوفاً عليه… .
الشرح:
وشهد كثير من المخالفين له عليه السلام بفقهه وورعه وعبادته.
قال اليافعي: «كان الإمام علي الهادي متعبّداً فقيهاً إماماً»(7).
وبمثله قال ابن العماد الحنبلي(8).
وقال ابن كثير: «قد كان عابداً زاهداً»(9).
وذكر كثيرون منهم إشخاص المتوكل إيّاه من المدينة المنورة إلى العراق، إلا أنهم ـ مع تصريحهم بنصب المتوكل ـ يحاولون التغطية على قبائحه وستر مظالمه، فلا يذكرون تفصيل القضايا، ففي تاريخ اليعقوبي:
«وكتب المتوكل إلى علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد في الشخوص من المدينة، وكان عبد اللّه بن محمد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام، فشخص عن المدينة، وشخص يحيى بن هرثمة معه، حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك. وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به اللّيل فأقام ببغداد بعض تلك الليلة، ثم نفذ إلى سرّ من رأى»(10).
وقد وجدت الخبر كما شرحه العلاّمة رحمه اللّه، في كتاب (تذكرة خواصّ الأمة)، وصاحبه حنفي المذهب ومن المتقدّمين عليه، فإنه قال:
«قال علماء السير: وإنما أشخصه المتوكل من مدينة رسول اللّه إلى بغداد، لأن المتوكل كان يبغض عليّاً وذريّته، فبلغه مقام علي بالمدينة وميل الناس إليه، فخاف منه، فدعى يحيى بن هرثمة وقال: إذهب إلى المدينة، وانظر في حاله وأشخصه إلينا.
قال يحيى: فذهبت إلى المدينة، فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، خوفاً على علي، وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا. قال يحيى: فجعلت أسكّنهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه وأنه لا بأس عليه. ثم فتّشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته.
فلمّا قدمت به بغداد بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري ـ وكان والياً على بغداد ـ فقال لي: يا يحيى، إن هذا الرجل قد ولّده رسول اللّه، والمتوكّل من تعلم، فإن حرّضته عليه قتله، وكان رسول اللّه خصمك يوم القيامة. فقلت له: واللّه ما وقفت منه إلا على كلّ أمر جميل.
ثم صرت به إلى سرّ من رأى، فبدأت بوصيف التركي، فأخبرته بوصوله، فقال: واللّه لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك. فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق.
فلمّا دخلت على المتوكل سألني عنه، فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقته وورعه وزهادته، وأني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم، وأن أهل المدينة خافوا عليه. فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل برّه وأنزله معه سرّ من رأى»(11).
(1) تاريخ الطبري 7 / 365، الكامل لإبن الأثير 7 / 55، البداية والنهاية 10 / 347، تاريخ الخلفاء: 347، النجوم الزاهرة 2 / 235 وغيرها.
(2) سير أعلام النبلاء 12 / 35.
(3) الكامل في التاريخ 7 / 55.
(4) سير أعلام النبلاء 12 / 31 عن بعضهم.
(5) تاريخ الخلفاء: 352.
(6) تاريخ الخلفاء: 349.
(7) مرآة الجنان 2 / 160.
(8) شذرات الذهب 2 / 128.
(9) البداية والنهاية 11 / 19.
(10) تاريخ اليعقوبي 2 / 484.
(11) تذكرة خواص الأمة: 359 ـ 360.