ولمّا كان العلاّمة طاب ثراه في العراق، وقد عاصر أيام عظمة المستنصرية وازدهارها، وشاهدها وعرف أخبارها، فإنا نكتفي بالتكلّم حولها، فنقول:
ذكر الذهبي في حوادث سنة 631 من تاريخ الإسلام: «وفيها تكامل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد، ونقل إليها الكتب، وهي مائة وستون حملاً، وعدّة فقهائها مائتان وثمانية وأربعون فقيهاً من المذاهب الأربعة، وأربعة مدرسين، وشيخ حديث، وشيخ نحو، وشيخ قرَّاء، وشرط لكلّ مدرس أربعة معيدين، ويحضره اثنان وستون فقيهاً».
قال: «ثم رأيت نسخة كتاب وقفها في خمسة كراريس، والوقف عليها: عدّة رباع، وحوانيت ببغداد، وعدّة قرى كبار وصغار ما قيمته تسعمائة ألف دينار فيما يخال إلي، ولا أعلم وقفاً في الدنيا يقارب وقفها أصلاً، سوى أوقاف جامع دمشق وقد يكون وقفها أوسع».
ثم ذكر الذهبي أوقاف المستنصرية من القرى والضياع، ذاكراً أسماءها ومساحاتها، ونحن نذكر المساحات فقط: 3700 جريب. 6400 جريب. 505 جريب. 5500 جريب. 3990 جريب. 3000 جريب. 4180 جريب. 8100 جريب. 3100 جريب. 4000 جريب. 4000 جريب. 1000 جريب. 1200 جريب. 4800 جريب. 6500 جريب. 20250 جريب. 4800 جريب. 6000 جريب. 5900 جريب. 7200 جريب. 2600 جريب. 6400 جريب. 5500 جريب. 2500 جريب. 4600 جريب. 19000 جريب.
قال الذهبي: «فالمرتزقة من أوقاف هذه المدرسة على ما بلغني، نحو من خمسمائة نفر، المدرسون فمن دونهم، وبلغني أن تبن الوقف يكفي الجماعة ويبقى مخل هذه القرى مع كرى الرباع فضلة. فكذا فليكن البر وإلا فلا. وحدثني الثقة: إن ارتفاع وقفها بلغ في بعض السنين وجاء نيفاً وسبعين ألف مثقال ذهباً». وذكر غير واحد من المؤرخين: «إن قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار، وأن وارداتها بلغت نيفاً وسبعين ألف مثقال من الذهب في السنة»(1). وقال الخزرجي: «أنفق عليها من المال ما يعجز عنه الحصر، ووقف عليها وقفاً جليلاً»(2).
هذا فيما يتعلّق بأوقاف المستنصرية.
ثم إنه قد عيّن رواتب للمدرّسين وللمعيدين وللطلبة في مختلف العلوم، بعد أن جعل لكلّ طائفة منهم شروطاً، ونحن نكتفي بذكر ما يتعلّق بقسم الفقه في المدرسة المستنصرية للاختصار:
لقد شرط المستنصر في مدرسة الفقه الشروط الآتية(3):
أن يكون لكلّ طائفة من الطوائف الأربع مدرس. وأن يكون لكلّ مدرس أربعة معيدين. وأن يكون لكلّ مدرس في اليوم عشرون رطلاً من الخبز، وخمسة أرطال من اللحم بخضرها وحوائجها وحطبها. وأن يكون لكلّ مدرّس فيها اثنا عشر ديناراً في الشهر.
هذا غير ما كان يصل المدرّسين من الخلع والعطايا والصّلات.
وكان تعيين المدرس يتم بصدور توقيع من الخليفة، وبعد ذلك يخلع عليه خلعة التدريس بدار الوزير، وقد يمطى بغلة فيحضر إلى المدرسة بالخلعة، ويرافقه صاحب الديوان ومعه الولاة والحجاب والصدور والأكابر وصاحب البريد، وجميع أرباب المناصب، احتراماً له، ثم يجلس سدّة التدريس، فيلقي بحثه، ويحضر الأئمة والفقهاء والأعيان درسه الأول، وتكون عليه الطرحة ـ وهي لباس خاص يضعه المدرسون فوق العمامة ـ فإذا عزل عن التدريس توجه إلى داره بغير طرحة.
هذا بالنسبة إلى رواتب المدرّسين وكيفية نصب المدرّس. وجعل للمعيدين وهم الذين يعيدون على الطلاب جميع ما يمليه عليهم المدرس، وقد تقدّم أنه شرط أن يكون لكلّ مدرس أربعة معيدين ـ رواتب تخصهم، وهي(4): أن يكون للمعيد في كلّ يوم أربعة أرطال خبزاً وغرفان طبيخاً. وأن يكون لكلّ معيد ثلاثة دنانير في الشهر.
وأمّا الطلاب، فقد شرط المستنصر في طلاب مدرسته: أن يكون عدّة الفقهاء (يعني طلاب الفقه) مائتين وثمانية وأربعين رجلاً، وأن يكون من كلّ طائفة من المذاهب الأربعة اثنان وستون رجلاً، وأن يكون لكلّ طالب في كلّ شهر ديناران، وأن يجري لكلّ واحد منهم في كلّ يوم أربعة أرطال خبزاً وغرف طبيخاً مما يطبخ في مطبخها، وأن يكون لكلّ طالب مقدار من اللّحم ومن الحلوى والفاكهة والصابون والزيت والفرش والتعهد.
وقد جعل لكلّ طالب في الفقه ـ بالإضافة إلى ما ذكر من الجرايات والرواتب كلّها ـ ديناراً إماميّاً في كلّ شهر، وشرط أيضاً أن تضاعف المشاهرات في شهر رمضان(5)، وذكروا أن هذه الرواتب والمشاهرات كلّها كانت بالإضافة إلى ما يهيّأ لهم من: الحبر والورق والأقلام، وما يحتاجون إليهم للكتابة والاستنساخ من اللّوازم(6). وأنه رتّب لجميع أرباب المشاهرات حماماً يدخلون إليه متى احتاجوا وفيه من يقوم بخدمتهم(7).
وكان المريض من أرباب هذا الوقف يطبّب مجّاناً، ويعطى ما يوصف له من الأدوية والأشربة والأكحال السائلة والسكر والفراريج وغير ذلك(8).
وقد رتّب في المدرسة من الأمور الدالّة على تفقده لأحوال أهل العلم، وكثرة فكرته فيما يقضي براحتهم وإزاحة عللهم مما هو معروف لمن شاهد وسمع به. هذا عدا ما كان من صلات وصدقات إلى من يرد من العلماء والزهاد والأدباء وسائر الطبقات(9).
أقول: هذه خلاصة ما كان في المدرسة المستنصرية الموقوفة على المذاهب الأربعة فقط، من الرواتب والمشاهرات وغيرها لطلاب مدرسة الفقه فيها.. ولم نتعرّض لما كان يجري لغيرهم فيها، من طلاب دار الحديث، ودار القرآن وغير ذلك.
ومن الجدير بالذكر، ويشهد بما ذكره العلاّمة رحمه اللّه، أن هذه الرواتب والمشاهرات لما انقطعت وقيل للفقهاء وغيرهم: من يرضى بالخبز وحده وإلا فما عندنا غيره، ثاروا على من بيده وقوف المدرسة، ونالوا منه، وأسمعوه قبيح الكلام، فحماه منهم بعضهم، وخلّصه من أيديهم، فاتّصل ذلك بالحكّام وعزلوا صدر الوقوف!!(10).
وأيضاً، فقد ذكروا بترجمة الحافظ ابن النجار: أنه لمّا ورد بغداد كانت عنده أموال، فلم يسكن داراً وقفيّة عرِض عليه سكناها، فلمّا فتحت المستنصرية عيّن عليه مشتغلاً في علم الحديث، فأجاب إلى ذلك(11).
قال قدس سره: وكان أكبر مدرسي الشافعية في زماننا، حيث توفي أوصى بأن يتولّى أمره في غسله وتجهيزه بعض المؤمنين، وأن يدفن في مشهد الكاظم عليه السلام، وأشهد عليه أنه على دين الإمامية!
(1) تاريخ المستنصرية 2 / 167.
(2) تاريخ المستنصرية 1 / 92.
(3) تاريخ المستنصرية 1 / 115 ـ 116.
(4) تاريخ المستنصرية 1 / 229.
(5) تاريخ المستنصرية 1 / 261 ـ 262.
(6) تاريخ المستنصرية 1 / 57.
(7) تاريخ المستنصرية 1 / 73.
(8) تاريخ المستنصرية 1 / 58.
(9) تاريخ المستنصرية 1 / 106.
(10) تاريخ المستنصرية 1 / 97، 127.
(11) تاريخ المستنصرية 1 / 337.
Menu