الأول
لمّا نظرنا في المذاهب وجدنا أحقّها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل، وأعظمها تنزيهاً للّه تعالى ولرسله ولأوصيائه عليهم السّلام، وأحسنها في المسائل الأصولية والفروعية: مذهب الإمامية، لأنهم:
اعتقدوا أن اللّه تعالى هو المخصوص بالأزليّة والقدم، وأن كلّ ما سواه مُحْدَثٌ، لأنه واحد.
وأنه ليس بجسم ولا في مكان، وإلاّ لكان محدثاً، بل نزّهوه عن مشابهة المخلوقات. وأنه تعالى قادر على جميع المقدورات، وأنه عدل حكيم لا يظلم أحداً ولا يفعل القبيح، وإلاّ لزم الجهل والحاجة تعالى اللّه عنهما. ويثيب المطيع لئلاّ يكون ظالماً، ويعفو عن العاصي أو يعذّبه بجرمه من غير ظلم له.
وأن أفعاله محكمة واقعة لغرض ومصلحة، وإلاّ لكان عابثاً، وقد قال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ).
وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس، لقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ). وأنه ليس في جهة، وأن أمره ونهيه وإخباره حادث، لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره.
وأنه أرسل الأنبياء عليهم السّلام لإرشاد العالم.
وأن الأنبياء عليهم السّلام معصومون عن الخطأ والسهو والمعصية، صغيرها وكبيرها، من أوّل العمر إلى آخره، وإلاّ لم يبق وثوق بما يبلغونه فانتفت فائدة البعثة، ولزم التنفير عنهم.
وأن الأئمة معصومون كالأنبياء عليهم السّلام في ذلك، لما تقدّم.
ولأن الشيعة أخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين عليهم السّلام الناقلين عن جدّهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، الآخذ ذلك من اللّه تعالى بوحي جبرئيل عليه السلام إليه، يتناقلون ذلك عن الثقات خلفاً عن سلف، إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين عليه السلام.
ولم يلتفتوا إلى القول بالرأي والإجتهاد، وحرَّموا الأخذ بالقياس والإستحسان.
أمّا باقي المسلمين، فقد ذهبوا كلّ مذهب، فقال بعضهم وهم جماعة الأشاعرة: إن القدماء كثيرون مع اللّه تعالى، وهي المعاني التي يثبتونها موجودة في الخارج كالقدرة والعلم وغير ذلك، فجعلوه تعالى مفتقراً في كونه عالماً إلى ثبوت معنى هو العلم! وفي كونه قادراً إلى ثبوت معنى هو القدرة، وغير ذلك! ولم يجعلوه قادراً لذاته، ولا عالماً لذاته، ولا رحيماً لذاته، ولا مدركاً لذاته، بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها، فجعلوه محتاجاً ناقصاً في ذاته كاملاً بغيره! تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.
واعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال: إن النصارى كفروا لأنهم قالوا إن القدماء ثلاثة، والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة!
وقال جماعة الحشوية والمشبهة: إن اللّه تعالى جسمٌ له طولٌ وعرضٌ وعمقٌ! وإنه يجوز عليه المصافحة! وإن المخلصين من المسلمين يعانقونه في الدنيا!
وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوِّز رؤيته في الدنيا، وأن يزورهم ويزورونه!
وحكيَ عن داود الظاهري أنه قال: أعفوني عن اللّحية والفرج واسألوني عما وراء ذلك! وقال إن معبوده جسمٌ ولحمٌ ودمٌ، وله جوارح وأعضاء وكبدٌ ورِجْلٌ ولسانٌ وعينيْن وأذنيْن!
وحكيَ أنه قال: هو مُجَوَّفٌ من أعلاه إلى صدره، مُصْمَتُ ما سوى ذلك، وله شعر قطط!
حتى قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه! وأنه يفضل من العرش عنه من كلّ جانب أربع أصابع!
وذهب بعضهم إلى أنه تعالى ينزل في كلّ ليلة جمعة على شكل أمرد حسن الوجه، راكباً على حمار، حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره مَعْلَفاً يضع كلّ ليلة جمعة فيه شعيراً وتِبْناً! لتجويز أن ينزل اللّه تعالى على حماره على ذلك السطح فيشتغل الحمار بالأكل، ويشتغل الربّ بالنداء: هل من تائب، هل من مستغفر! تعالى اللّه عن مثل هذه العقائد الرديَّة في حق اللّه تعالى.
وحكيَ عن بعض المنقطعين التاركين للدنيا من شيوخ الحشوية: أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نَفَّاطٌ ومعه أمردُ حسن الصورة قَطَطُ الشعر، على الصفات التي يصفون ربّهم بها، فألحَّ الشيخُ في النظر إليه وكرّره وأكثر تصويبه إليه! فتوهّم فيه النفَّاط فجاء إليه ليلاً وقال: أيها الشيخ، رأيتك تُلِحُّ بالنظر إلى هذا الغلام وقد أتيت به إليك، فإن كان لك فيه نيةٌ فأنت الحاكم! فَحَرِدَ عليه وقال: إنما كرّرتُ النظر إليه، لأن مذهبي أن اللّه تعالى ينزل اللّه على صورة هذا الغلام، فتوهّمت أنه اللّه! فقال له النفّاط: ما أنا عليه من النفاطة أجود ممّا أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة!
وقالت الكراميّة: إن اللّه تعالى في جهة فوق، ولم يعلموا أن كلّ ما هو في جهة فهو محدث، ومحتاج إلى تلك الجهة.
وذهب آخرون إلى أن اللّه تعالى لايقدر على مثل مقدور العبد! وآخرون إلى أنه لايقدر على عين مقدور العبد!
وذهب الأكثر منهم إلى أن اللّه تعالى يفعل القبائح، وأن جميع أنواع المعاصي والكفر وأنواع الفساد واقعة بقضاء اللّه تعالى وقدره، وأن العبد لا تأثير له في ذلك! وأنه لا غرض للّه تعالى في أفعاله ولا يفعل لمصلحة العباد شيئاً، وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة!
وهذا يستلزم أشياء شنيعة:
منها: أن يكون اللّه تعالى أظلم من كلّ ظالم! لأنه يعاقب الكافر على كفره وهو قدَّره عليه، ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان!
فكما أنه يلزم الظلم لو عذّبه على لونه وطوله وقصره، لأنه لا قدرة له فيها، كذا يكون ظالماً لو عذّبه على المعصية التي فعلها فيه.
ومنها: إفحام الأنبياء عليهم السّلام وانقطاع حجتهم، لأن النبي إذا قال للكافر: آمن بي وصدقني، يقول له: قل للذي بعثك يَخْلقْ فىَّ الإيمان أو القدرة المؤثرة فيه حتى أتمكن من الإيمان فأؤمن، وإلاّ فكيف تكلّفني الإيمان ولا قدرة لي عليه بل خلق فىَّ الكفر، وأنا لا أتمكّن من مقاهرة اللّه تعالى! فينقطع النبي عليه السلام ولا يتمكّن من جوابه!
ومنها: تجويز أن يعذّب اللّه تعالى سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه وآله على طاعته ويثيب إبليس على معصيته، لأنه يفعل الأشياء لا لغرض! فيكون فاعل الطاعة سفيهاً لأنه يتعجل بالتعب والإجتهاد في العبادة وإخراج ماله في عمارة المساجد والرُّبُط والصدقات، من غير نفع يحصل له، لأنه قد يعاقبه على ذلك! ولو فعل عوض ذلك ما يلتذ به ويشتهيه من أنواع المعاصي قد يثيبه! فاختيار الأوّل يكون سفهاً عند كلّ عاقل!
والمصير إلى هذا المذهب يؤدّي إلى خراب العالم، واضطراب أمر الشريعة المحمديّة!
ومنها: أنه يلزم أن لا يتمكّن أحد من تصديق أحد من الأنبياء عليهم السّلام، لأن التوصّل إلى ذلك والدليل عليه إنما يتم بمقدمتين. إحداهما: أن اللّه تعالى فعل المعجز على يد النبي عليه السلام لأجل التصديق. والثانية: أن كلّ ما صدقه اللّه تعالى فهو صادق. وكلتا المقدمتين لا تتم على قولهم، لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض، استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق، وإذا كان فاعلاً للقبيح ولأنواع الإضلال والمعاصي والكذب وغير ذلك، جاز أن يصدق الكذاب! فلا يصح الإستدلال على صدق أحد من الأنبياء عليهم السّلام، ولا التديّن بشيء من الشرائع والأديان.
ومنها: أنه لا يصح أن يوصف اللّه تعالى بأنه غفورٌ رحيمٌ حليمٌ عفوٌّ، لأن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان اللّه تعالى مسقطاً للعقاب في حق الفساق، بحيث إذا أسقطه عنهم كان غفوراً عفوّاً رحيماً، وإنما يستحق العقاب لو كان العصيان من العبد، لا من اللّه تعالى.
ومنها: أنه يلزم منه تكليف ما لا يطاق، لأنه يكلف الكافر بالإيمان ولاقدرة له عليه وهو قبيح عقلاً! والسمع قد منع منه فقال: (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا).
ومنها: أنه يلزم منه أن تكون أفعالنا الإختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا مثل حركتنا يَمْنَةً وَيَسْرَةً وحركة البطش باليد والرجل في الصنائع المطلوبة لنا، كالأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره! لكن الضرورة قاضية بالفرق بينهما، وكلّ عاقل يحكم بأنا قادرون على الحركات الإختيارية، وغير قادرين على الحركة إلى السماء.
قال أبو الهذيل العلاّف: حِمَارُ بِشْر أعقلُ من بشر، لأن حمارَ بشْر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنه يطفره، ولو أتيت به إلى جدول كبير لم يطفره، لأنه يُفرّق بين ما يقدر على طفره وما لا يقدر عليه، وبشرٌ لا يفرّق بين المقدور له وغير المقدور!
ومنها: أنه يلزم أن لا يبقى عندنا فرقٌ بين من أحسن إلينا غايةَ الإحسان طولَ عمره، وبين من أساء إلينا غايةَ الإساءة طولَ عمره، ولم يحسن منّا شكر الأوّل وذمّ الثاني، لأن الفعلين صادران من اللّه تعالى عندهم!
ومنها: التقسيم الذي ذكره مولانا وسيّدنا موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، وقد سأله أبو حنيفة وهو صبيّ فقال: المعصية ممّن؟ فقال الكاظم عليه السلام: المعصية إمّا من العبد أو من ربّه أو منهما، فإن كانت من اللّه تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت المعصية من العبد وحده فعليه وقع الأمر وإليه توجّه المدح والذم وهو أحق بالثواب والعقاب، ووجبت له الجنة أو النار. فقال أبو حنيفة: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض).
ومنها: أنه يلزم أن يكون الكافر مطيعاً بكفره، لأنه قد فعل ما هو مراد اللّه تعالى، لأنه أراد منه الكفر وقد فعله! ولم يفعل الإيمان الذي كرهه اللّه تعالى منه، فيكون قد أطاعه لأنه فعل مراده ولم يفعل ما كرهه!
ومنها: أنه يلزم نسبة السّفه إلى اللّه تعالى، لأنه أمَر الكافر بالإيمان ولايريده منه ونهاه عن المعصية وقد أرادها! وكلّ عاقل يَنْسب من يأمر بما لا يريد وينهى عمّا يريد إلى السّفه! تعالى اللّه عن ذلك.
ومنها: أنه يلزم عدم الرضا بقضاء اللّه تعالى وقدره، لأن الرّضا بالكفر حرامٌ بالإجماع، والرضا بقضاء اللّه تعالى وقدره واجب، فلو كان الكفر بقضاء اللّه تعالى وقدره وجب علينا الرّضا به، لكن لا يجوز الرّضا بالكفر.
ومنها: أنه يلزم أن نستعيذ بإبليس من اللّه تعالى، ولا يحسن قوله تعالى: (فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، لأنهم نزّهوا إبليس والكافر عن المعاصي وأضافوها إلى اللّه تعالى، فيكون على المكلّفين شرّاً من إبليس عليهم، تعالى اللّه عن ذلك!
ومنها: أنه لايبقى وثوق بوعد اللّه تعالى ووعيده! لأنهم إذا جوّزوا استناد الكذب في العالم إليه، جاز أن يكذب في إخباراته كلّها! فتنتفي فائدة بعثة الأنبياء عليهم السّلام، بل وجاز منه إرسال الكذّابين! فلا يبقى لنا طريق إلى تميّز الصادق من الأنبياء عليهم السّلام والكاذب!
ومنها: أنه يلزم منه تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي! فإن الزنا إذا كان واقعاً بإرادة اللّه تعالى، والسّرقة إذا صدرت من اللّه تعالى، وإرادته هي المؤثّرة، لم يجز للسّلطان المؤاخذة عليها، لأنه يصدّ السارق عن مراد اللّه تعالى ويبعثه على ما يكرهه اللّه تعالى! ولو صدَّ الواحد منا غيره عن مراده وحمله على ما يكرهه، استحق منه اللّوم! ويلزم أن يكون اللّه مريداً للنقيضين، لأن المعصية مرادةٌ للّه تعالى والزجر عنها مرادٌ له أيضاً!
ومنها: أنه يلزم منه مخالفة المعقول والمنقول:
أمّا المعقول فلما تقدم من العلم الضروري بإستناد أفعالنا الإختيارية إلينا ووقوعها بحسب إرادتنا، فإذا أردنا الحركة يَمْنَةً لم يقع يَسْرَةً، وبالعكس، والشك في ذلك عين السفسطة!
وأمّا المنقول، فالقرآن مملوءٌ من إسناد أفعال البشر إليهم، كقوله تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى). (أدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ). (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا تَسْعَى). (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ). (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ). (فَبِظُلْم مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَات أُحِلَّتْ لَهُمْ). (كُلُّ امْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ). (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ). (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي). (إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة). (وَمَا رَبُّكَ بِظَلام لِلْعَبِيدِ). (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً). (وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ). وأيُّ ظلم أعظم من تعذيب الغير على فعل لم يصدر منه، بل ممّن يعذّبه؟
قال الخصم: القادر يمتنع أن يُرجّح مقدوره من غير مُرجح، ومع المرجّح يجب الفعل، فلا قدرة! ولأنه يلزم أن يكون الإنسان شريكاً للّه تعالى، ولقوله تعالى: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ).
والجواب
عن الأول: المعارضة باللّه تعالى فإنه تعالى قادر، فإن افتقرت القدرة إلى المرجح وكان المرجح موجباً للأثر، لزم أن يكون اللّه تعالى موجباً لا مختاراً، فيلزم الكفر!
وعن الثاني: أي شركة هنا واللّه تعالى هو القادر على قهر العبد وإعدامه؟! ومثال هذا: أن السّلطان إذا ولّى شخصاً بعض البلاد فنهب وظلم وقهر، فإن السّلطان يتمكن من قتله والإنتقام منه واستعادة ما أخذه ولا يكون شريكاً للسّلطان.
وعن الثالث: أنه إشارة إلى الأصنام التي كانوا ينحتونها ويعبدونها، فأنكر عليهم وقال: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)!
وذهبت الأشاعرة إلى أن اللّه تعالى مرئىٌّ بالعين، مع أنه مجرّد عن الجهات، وقد قال تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَار)، وخالفوا الضرورة في أن المدرَك بالعين يكون مقابلاً أو في حُكمه، وخالفوا جميع العقلاء في ذلك. وذهبوا إلى تجويز أن يكون بين أيدينا جبال شاهقة من الأرض إلى السماء مختلفة الألوان لا نشاهدها، وأصوات هائلة لا نسمعها، وعساكر مختلفة متحاربة بأنواع الأسلحة بحيث تُمَاسُّ أجسامنا أجسامهم لانشاهد صورهم ولا حركاتهم ولا نسمع أصواتهم الهائلة، وأن نشاهد جسماً أصغر الأجسام كالذرة في المشرق ونحن في المغرب، مع كثرة الحائل بيننا وبينها، وهذا عين السفسطة!
وذهبوا إلى أنه تعالى آمرٌ وناه في الأزل ولا مخلوق عنده، قائلاً: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّهَ). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ). ولو جلس شخص في منزله ولا غلام عنده فقال: يا سالم قم، يا غانم كل، يا نجاح أدخل، قيل: لمن تنادي؟ فيقول: لعبيد أشتريهم بعد عشرين سنة. نَسَبَهُ كلّ عاقل إلى السّفه والحمق! فكيف يحسن منهم أن ينسبوا اللّه تعالى إليه في الأزل.
وذهب جميع من عدا الإماميّة والإسماعيليّة إلى أن الأنبياء والأئمة عليهم السّلام غير معصومين، فجوَّزوا بعثةَ من يَجُوزُ عليه الكذب والسّهو والخطأ والسرقة! فأيّ وثوق يبقى للعامّة في أقاويلهم، وكيف يحصل الإنقياد إليهم، وكيف يجب اتَّباعهم، مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ؟
ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين، بل كلّ من تابع قرشيّاً انعقدت إمامته عندهم ووجبت طاعته على جميع الخلق! إذا كان مستور الحال، وإن كان على غاية من الفسوق والكفر والنفاق!
وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس والأخذ بالرأي، فأدخلوا في دين اللّه ما ليس منه! وحرَّفوا أحكام الشريعة، وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلّى اللّه عليه وآله، ولا في زمن صحابته! وأهملوا أقاويل الصحابة. مع أنهم نصّوا على ترك القياس وقالوا: أول من قاس إبليس! وذهبوا بسبب ذلك إلى أمور شنيعة:
كإباحة البنت المخلوقة من الزنا، وسقوط الحدّ عمّن نكح أمّه وأخته وبنته، مع علمه بالتحريم والنسب بواسطة عقد يعقده وهو يعلم بطلانه، وعمّن لفّ على ذكره خرقة وزنا بأمّه أو بنته! وعن اللاّئط مع أنه أفحش من الزنا وأقبح!
وإلحاق نسب المشرقيّة بالمغربي، فإذا زوَّج الرجل ابنته وهو في المشرق برجل هو وإيّاه في المغرب، ولم يفترقا ليلاً ونهاراً حتى مضت مدة ستة أشهر، فولدت البنت في المشرق، التحق نسب الولد بالرجل، وهو وأبوها في المغرب، مع أنه لا يمكنه الوصول إليها إلاّ بعد سنين متعددة! بل لو حبسه السّلطان من حين العقد وقيّده وجعل عليه حَفَظَةً مدةَ خمسين سنة، ثم وصل إلى بلد المرأة، فرأى جماعة كثيرة من أولادها وأولاد أولادهم إلى عدّة بطون، التحقوا كلّهم بالرجل الذي لم يقرب هذه المرأة ولا غيرها البتة!
وإباحة النبيذ مع مشاركته للخمر في الإسكار! والوضوء والصّلاة في جلد الكلب، وعلى العذرة اليابسة!
وحكى بعض الفقهاء لبعض الملوك وعنده بعض فقهاء الحنفيّة صفة صلاة الحنفي، فدخل داراً مغصوبة وتوضأ بالنبيذ وكبَّرَ بالفارسية من غير نية، وقرأ: (مُدْهَامَّتَان) لا غير، بالفارسية، ثم طأطأ رأسه من غير طمأنينة وسجد كذلك ورفع رأسه بقدر حدّ السيف، ثم سجد، وقام ففعل كذلك ثانية، ثم أحدث! فتبرَّأ الملك وكان حنفياً من هذا المذهب!
وأباحوا المغصوب لو غيَّرَ الغاصب الصفة فقالوا: لو أن سارقاً دخل بدار شخص له فيه دوابُّ ورحىً وطعام، فطحن السارق طعام صاحب الدار بدوابّه وأرحيته ملك الطّحين بذلك! فلو جاء المالك ونازعه، كان المالك ظالماً والسارق مظلوماً! فلو تقاتلا فإن قُتل المالك كان ظالماً وإن قُتل السارق كان شهيداً!
وأوجبوا الحدّ على الزاني إذا كذّب الشهود وأسقطوه إذا صدّقهم فأسقطوا الحدّ مع اجتماع الإقرار والبيّنة! وهذا ذريعةٌ إلى إسقاط حدود اللّه تعالى، فإن كلّ من شهد عليه بالزنا يُصَدِّق الشهود ويُسقط عنه الحدّ.
وأباحوا الكلب، وأباحوا الملاهي كالشطرنج والغناء.
وغير ذلك من المسائل التي لا يحتملها هذا المختصر.
Menu