الفصل السادس: في نسخ حججهم على إمامة أبي بكر
احتجوا بوجوه:
الأول
الإجماع. والجواب منع الإجماع، فإن جماعة من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك، وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص.. حتى أن أباه أنكر ذلك وقال: من استخلف الناس؟ فقالوا: ابنك فقال: وما فعل المستضعفان إشارة إلى علي والعباس؟ فقالوا: اشتغلوا بتجهيز رسول اللّه، ورأوا أن ابنك أكبر الصحابة سنّاً، فقال: أنا أكبر منه! وكبني حنيفة كافة، لم يحملوا الزكاة إليه حتى سمّاهم أهل الردّة وقتلهم وسباهم، وأنكر عمر عليه وردّ السبايا أيام خلافته.
وأيضاً، الإجماع ليس أصلاً في الدلالة، بل لابدّ أن يستند المجمعون إلى دليل على الحكم حتى يجمعوا عليه وإلا لكان خطأ، وذلك الدليل إما عقلي وليس في العقل دلالة على إمامته، وإما نقلي وعندهم أن النبي صلّى اللّه عليه وآله مات عن غير وصية ولا نص على إمامته والقرآن خال منه. فلو كان الإجماع متحققاً كان خطأً فتنتفي دلالته.
وأيضاً، الإجماع، إما أن يعتبر فيه قول كلّ الأمة، ومعلوم أنه لم يحصل، بل ولا إجماع أهل المدينة أو بعضهم، وقد أجمع أكثر الناس على قتل عثمان. وأيضاً، كلّ واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ، فأي عاصم لهم عن الكذب عند الإجماع؟
وأيضاً، قد بيّنا ثبوت النص الدالّ على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام فلو أجمعوا على خلافه كان خطأ، لأن الإجماع الواقع على خلاف النصّ يكون خطأ عندهم.
الثاني
ما رووه عن النبي صلّى اللّه عليه وآله أنه قال: إقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر.
والجوابُ: المنع من الرواية، ومن دلالتها على الإمامة، فإن الإقتداء بالفقهاء لا يستلزم كونهم أئمة.
وأيضاً، فإن أبا بكر وعمر اختلفا في كثير من الأحكام، فلا يمكن الإقتداء بهما.
وأيضاً، فإنه معارض بما رووه من قوله: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، مع إجماعهم على انتفاء إمامتهم.
الثالث
ما ورد فيه من الفضائل.
كآية الغار وقوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى)، وقوله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْم أُولِي بَأْس شَدِيد)، والدّاعي هو أبو بكر. وأنه كان أنيس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في العريش يوم بدر، وأنفق على النبي صلّى اللّه عليه وآله، وتقدّم في الصلاة.
والجواب: أنه لا فضيلة له في الغار لجواز أن يستصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره!
وأيضاً، فإن الآية تدلّ على نقصه لقوله: لا تَحْزَنْ، فإنه يدل على خَوَره وقلّة صبره وعدم يقينه باللّه تعالى، وعدم رضاه بقضاء اللّه وقدره! لأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى النبي صلّى اللّه عليه وآله عنه، وإن كان معصية كان ما ادّعوه فضيلة رذيلة.
وأيضاً، فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، شرَك معه المؤمنين، إلاّ في هذا الموضع، ولا نقص أعظم منه.
وأمّا قوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي…).
فإن المراد به أن أبا الدحداح حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره، وقد عرض النبي صلّى اللّه عليه وآله على صاحب النخل نخلة في الجنة فأبى، فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها للجار، فجعل له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بستاناً عوضها في الجنة.
وأمّا قوله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ).
فإنه أراد الذين تخلّفوا عن الحديبية، والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم اللّه بقوله: (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا..)الآية، لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ثم قال: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ..) يريد أنه سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد، وقد دعاهم النبي صلّى اللّه عليه وآله إلى غزوات كثيرة، كمؤتة وحنين وتبوك وغيرها، وكان الداعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
وأيضاً، جاز أن يكون عليّا عليه السلام حيث قتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وكان رجوعهم إلى طاعته إسلاماً لقوله: «يا علي حربك حربي»، وحرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كفر.
وأمّا كونه أنيسه في العريش يوم بدر. فلا فضل فيه، لأن النبي صلّى اللّه عليه وآله كان أنسه باللّه تعالى مغنياً له عن كلّ أنيس، لكن لما عرف النبي صلّى اللّه عليه وآله أن أمره لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال، حيث هرب عدّة مرّات في غزواته. فأيُّما أفضل: القاعد عن القتال أو المجاهد بنفسه وماله في سبيل اللّه؟
وأمّا إنفاقه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله. فكذبٌ، لأنه لم يكن ذا مال، فإن أباه كان فقيراً في الغاية، وكان ينادي على مائدة عبد اللّه بن جدعان بمُدّ في كلّ يوم يقتات به، فلو كان أبو بكر غنياً لكفى أباه!
وكان أبو بكر في الجاهلية معلّماً للصبيان، وفي الإسلام كان خيّاطاً، ولمّا ولي أمر المسلمين منعه الناس من الخياطة فقال: إني أحتاج إلى القوت! فجعلوا له في كلّ يوم ثلاثة دراهم من بيت المال! والنبي صلّى اللّه عليه وآله كان قبل الهجرة غنياً بمال خديجة، ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش، وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر شيء البتة على حال من الأحوال!
ثم لو أنفق، لوجب أن ينزل فيه قرآن كما نزل في علي: هَلْ أَتَى.. ومن المعلوم أن النبي صلّى اللّه عليه وآله كان أشرف من الذين تصدّق عليهم أمير المؤمنين عليه السلام والمال الذي يدّعون إنفاقه كان أكثر، فحيث لم ينزل شيء دلَّ على كذب النقل.
وأمّا تقدّمه في الصلاة. فخطأ، لأن بلالاً لمّا أذّن بالصّلاة أمرت عائشة أن يقدّم أبو بكر، فلما أفاق النبي صلّى اللّه عليه وآله سمع التكبير فقال: من يصلّي بالناس؟ فقالوا أبو بكر فقال: أخرجوني! فخرج بين علي عليه السلام والعباس فنحَّاه عن القبلة وعزله عن الصّلاة، وتولّى هو الصّلاة.
فهذا حال أدلّة هؤلاء!
فلينظر العاقل بعين الإنصاف ويقصد طلب الحق دون اتباع الهوى، ويترك تقليد الآباء والأجداد، فقد نهى اللّه تعالى في كتابه عن ذلك، ولا تلهه الدنيا عن إيصال الحق إلى مستحقه، ولا يمنع المستحق عن حقه.
فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة، واللّه الموفق للصواب.
فرغت من تسويده في جمادى الأولى من سنة تسع وسبعمائة بناحية خراسان، وكتب حسن بن يوسف المطهر مصنف الكتاب.
والحمد للّه رب العالمين
وصلى اللّه على سيد المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين