قال ابن تيمية: «وأما علي بن الحسين، فمن كبار التابعين وساداتهم علماً وديناً، أخذ عن: أبيه، وابن عباس، والمسور بن مخرمة، وأبي رافع مولى النبي صلّى اللّه عليه وآله، وعائشة وأم سلمة وصفيّة أمهات المؤمنين، وعن مروان بن الحكم، وسعيد بن المسيب، وعبد اللّه بن عثمان، وذكوان مولى عائشة، وغيرهم. رضي اللّه تعالى عنهم. وروى عنه: أبو سلمة بن عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والزهري، وأبو الزناد، وزيد بن أسلم، وابنه أبو جعفر.
قال يحيى بن سعيد: هو أفضل هاشمي رأيته في المدينة.
وقال محمد بن سعد في الطبقات: كأن ثقة مأموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً.
وروي عن حماد بن زيد قال: سمعت علي بن الحسين ـ وكان أفضل هاشمي أدركته ـ يقول: يا أيها الناس أحبّونا حبّ الإسلام، فما برح بنا حبّكم حتى صار عاراً علينا.
وعن شيبة بن نعامة قال: كان علي بن الحسين يبخل، فلمّا مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة في السرّ. وله من الخشوع وصدقة السرّ وغير ذلك من الفضائل ما هو معروف.
حتى أنه كان من صلاحه ودينه يتخطّى مجالس أكابر الناس ويجالس زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب ـ وكان من خيار أهل العلم والدّين من التابعين ـ فيقال له: تدع مجالس قومك وتجالس هذا؟ فيقول: إنما يجلس الرجل حيث يجد صلاح قلبه.
وأمّا ما ذكره من قيام ألف ركعة، فقد تقدّم أن هذا لا يمكن إلاّ على وجه مكروه في الشّريعة، أو لا يمكن بحال، فلا يصلح ذكره لمثل هذا في المناقب.
وكذلك ما ذكره من تسمية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له سيّد العابدين، هو شيء لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل العلم والدّين»(1).
أقول: هذا كلّ ما ذكره الرجل حول الإمام السجّاد عليه السلام، أوردته بنصّه، فأقول:
أوّلاً: لقد سكت عن بعض ما ذكره العلاّمة، وسكوته دليل القبول، لكنّ نفسه لم تسمح له بالتصريح، نعم، لقد كان الإمام علي بن الحسين عليه السلام أعبد أهل زمانه عند الخاصّ والعام، يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويتلو الكتاب العزيز، ويدعو بالأدعية المنقولة… ثم يرمي الصحيفة كالمتضجّر… وكان يبكي كثيراً… وسجد حتى حشى مساجده… وعن الجواب عن كلّ هذا سكت الرجل، وكلّه ثابت سواء قبل أو أنكر… وسكت أيضاً عن قضيّة استلامه الحجر بعد أن لم يمكن ذلك لهشام، وشعر الفرزدق في هذه القضيّة… وأنّى له أو لغيره إنكار قضيّة تجاوزت حدّ الرواية وعدّت من ضروريات التأريخ!!
وثانياً: لقد اعترف بكون الإمام عليه السلام من كبار التابعين وساداتهم علماً وديناً، ونقل كلمات عن بعض أكابر القوم في الثناء عليه.
وأقول: إن الإمام علي بن الحسين عليه السلام إمام معصوم منصوص عليه، والأدلّة النقليّة والعقليّة على إمامته كثيرة مذكورة في محلّها، فعدّه من (التابعين) إنما هو على اصطلاح أهل السنّة.
ولقد كان بإمكان الرجل نقل كلمات أخرى، لكن منعه عن ذلك بغضه وعناده، وإلاّ فقد أطنب في موارد كثيرة بأباطيل وأكاذيب، وربما كرّر المطلب الواحد أكثر من مرّة، وربّما تعرّض في مواضع لبحوث خارجة عن المقصود فيها. بل لم تسمح له نفسه بإيراد كلّ ما نقله محمد بن سعد وأبو نعيم الحافظ بترجمته من الطبقات والحلية، فنقل عنهما بعض ما ورد فيهما.
وثالثاً: لقد أنكر ما ذكره العلاّمة من صلاة الإمام في اليوم واللّيلة ألف ركعة، وما ذكره من تسمية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له سيد العابدين وقال: «هو شيء لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم والدين».
أقول:
أمّا الصّلاة ألف ركعة في كلّ يوم وليلة. فكان ذلك عمله كأبيه وجدّه… كما ستعرف في محلّه من الكتاب.
وأمّا تسمية الرسول صلّى اللّه عليه وآله إيّاه سيّد العابدين. فذاك مرويّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في كتب الفريقين، وممّن رواه من العامّة الحافظ سبط ابن الجوزي عن المدائني عن جابر بن عبد اللّه أنه قال لأبي جعفر محمد بن علي عليه السلام: «رسول اللّه يسلّم عليك، فقيل لجابر: وكيف هذا؟ فقال: كنت جالساً عند رسول اللّه والحسين في حجره وهو يداعبه، فقال: يا جابر يولد له ولد اسمه علي، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيد العابدين، فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمد، فإن أدركته يا جابر فاقرأه مني السّلام»(2).
وقال ابن حجر المكّي بترجمة ولده الإمام الباقر عليه السلام: «وكفاه شرفاً أن ابن المديني روى عن جابر أنه قال له وهو صغير: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يسلّم عليك. فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنت جالساً..»(3).
ورواه أبو عمر الزاهد في كتابه (اليواقيت) عن الزهري.
وفي الحلية: «وكان الزهري إذا ذكر علي بن الحسين يبكي ويقول: زين العابدين»(4).
ولقد جاء وصفه عليه السلام بـ(سيد العابدين) أو (زين العابدين) في سائر الكتب المذكورة فيها أحواله وترجمته(5).
فهل يكفي هذا القدر لبيان كذب الرجل؟!
ورابعاً: لقد ذكر أشياء لابدّ من التحقيق حولها:
أخذه عن أبيه وابن عباس و… فإن الإمام زين العابدين أخذ عن أبيه الإمام الحسين الشهيد، والحسين السبط أخذ عن والده أمير المؤمنين عليهم السّلام، وهو عن رسول ربّ العالمين صلّى اللّه عليه وآله. وحسب السجّاد أخذه عن والده، فإنه حينئذ وارث علوم سيد النبيين صلّى اللّه عليه وآله، وغنيٌّ عن الأخذ عن غيره، لأن الذين ذكرهم لم يدانوه في العلم والفضل أصلاً، بل فيهم من لا يعدّ من أهل العلم.
ولا ريب في أن أفضل من ذكر اسمه ـ بعد الحسين عليه السلام ـ هو ابن عباس، لكن كلّ ما عنده من العلم مأخوذ عن علي والحسنين صلوات اللّه وسلامه عليهم، وهو بعض ما ورثه السّجاد عنهم… .
(1) منهاج السنّة 4 / 48 ـ 50 .
(2) تذكرة الخواص من الأمة: 337.
(3) الصواعق المحرقة: 120.
(4) حلية الأولياء 3 / 135.
(5) أنظر مثلاً: وفيات الأعيان 3 / 266، حلية الأولياء 3 / 133، تذكرة الحفاظ 1 / 74، تهذيب التهذيب 7 / 268، طبقات الحفاظ: 37، طبقات القراء 1 / 534.
Menu