إعتقاده بحوادث لا أول لها وقوله بأزلية نوع العالم
.. وهذه المسألة من أكثر ما أفاض فيه ابن تيمية.. وحصر مقالاته فيها يطول.. ولذلك نكتفي بنقل بعض عباراته، وبعض الردود عليها..
يقول في (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول):
«.. قلت: هذا مضمون ما نبّه عليه في غير هذا الموضع: أن حدوث كلّ من الأعيان لا يستلزم حدوث النوع الذي لم يزل ولا يزال..» إلى أن قال..: «.. بل يكون الحادث اليومي مسبوقاً بحوادث لا أوّل لها، ولِمَ قلتم إن ذلك غير جائز؟»(1).
.. وهو ينكر مكابرةً منه حقيقة أن الجملة ليست إلاّ مجموع الآحاد.. وأنه إن كانت الآحاد حادثة فجملتها حادثة بداهة.. ينكر ابن تيمية هذه الحقيقة في نفس الكتاب.. يقول: «.. فإنه لا يلزم من الحكم على الآحاد أن يكون حكماً على الجملة.. بل جاز أن يكون كلّ واحد من آحاد الجملة غير أزلي والجملة أزليّة..»(2).
وابن تيمية إذ يقرّر أزليّة نوع العالم.. يتعجّب من نقل ابن حزم الإجماع على أن ما سوى الله مخلوق.. وهو ما نقله ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع) بقوله:
«باب من الإجماع في الإعتقادات يكفّر من خالفه بإجماع: إتفقوا أن الله عزّوجلّ وحده لا شريك له، خالق كلّ شيء غيره، وأنه تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلّها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كلّه مخلوق..»(3).
يقول ابن تيمية في تعليقه المسمّى (نقد مراتب الإجماع):
«.. فصارت حكايته لهذا الإجماع مبنية على هاتين المقدمتين اللتين ثبت النزاع في كلّ منهما، وأعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شيء غيره معه»(4).
وفي كتابه (شرح حديث عمران بن الحصين) يقول ابن تيمية:
«.. وإن قدّر أن نوعها لم يزل معه.. فهذه المعيّة لم ينفها شرع ولا عقل.. بل هي من كماله، قال تعالى (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ) والخلق لا يزالون معه»(5).
وابن تيمية في سبيل تقرير دعواه الفاسدة بقدم نوع العالم.. يردّ الروايات الصحيحة في بدء الخلق.. التي رواها البخاري وغيره.. لكونها لا توافق معتقده.. فيردّ الرواية التي لفظها (كان الله ولم يكن شيء غيره) ورواية (كان الله ولم يكن شيء معه).. وقد رواهما البخاري في صحيحه.. وتحكّم بترجيح رواية (كان الله ولم يكن شيء قبله) تحكّماً عجيباً متهافتاً. فهذه الرواية التي رجحها تدلّ عند ابن ـ تيمية على أنه ليس يوجد شيء قد سبق الله بالوجود.. ولا تمنع أن يكون ثم موجوداً قديماً بقدم الله أزلياً بأزلية الله. بل إنه في (منهاج السنة النبوية) يصرح بكلّ جرأة فيقول «لا مانع من أن يكون نوع العالم غير مخلوق لله». فالرجل يهدم هنا أوّل البراهين التي اهتدينا بها إلى وجوب وجود الله.. ذلك حقيقة حدوث العالم بأسره.. فكلّ ما سوى الله حادث مخلوق.. أُحدِث بعد عدم، وهل ثم تعجب من نقل ابن حزم الإجماع على كفر هذه الشرذمة… وكذا نقل الإمام الزركشي في كتابه (تشنيف المسامع) كفر من يقول بأزلية نوع العالم وحدوث أفراده.. وكفر من يقول بأزلية العالم نوعه وأفراده، وكذا القاضي عياض في الشفاء، وغيرهم؟
وقد قال السبكي في ابن تيمية: «جعل الحادث قديماً والقديم محدثاً» يعنى بالثاني إثبات ابن تيمية ما يستلزم حدوث الله تعالى… من القول بالحيّز والمكان والحدّ والجسمية وقيام الحوادث بذاته ـ.. ثم قال السبكي «ولم يجمع أحدٌ هذين القولين في ملّة من الملل ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسّبعين التي افترقت عليها الأمّة.. ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة.. وكلّ ذلك وإن كان كفراً شنيعاً مما تقلّ جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع…» ذكر السبكي ذلك في مقدمة (الدرّة المضيّة).
ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري:
«.. قوله (كان الله ولم يكن شيء قبله) تقدم في بدء الخلق بلفظ (ولم يكن شيء غيره) وفي رواية أبي معاوية: كان الله قبل كل شيء، وهو بمعنى كان الله ولا شيء معه، وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أوّل لها من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية، ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجّح الرواية التي في هذا الباب على غيرها، مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في بدء الخلق لا العكس، والجمع يقدّم على الترجيح بالإتفاق»(6).
ويقول الحافظ أبو الفضل عبد الله الغماري: «.. بدعة القول بحوادث لا أوّل لها وهي منقولة عن ابن تيمية كما في فتح الباري ولأجلها رجّح رواية حديث (كان الله ولم يكن شيء قبله) على رواية (كان الله ولم يكن شيء غيره) وعلى رواية (كان الله قبل كلّ شيء)..».. إلى أن قال «.. ولأجلها أيضاً انتقد على ابن حزم حكاية الإجماع على أن ما سوى الله مخلوق، كما تجد ذلك في تعليقاته على مراتب الإجماع. وهذه العقيدة أخذها عن عبدالله بن ميمون الإسرائيلي صاحب كتاب دلالة الحائرين! فأعجب لرجل يشدّد النكير على المبتدعين في الفروع ثم يبتدع بدعة في الأصول، ويرد لأجلها الأحاديث الصحيحة، ويستنكر إجماعاً مليّا أيّده العقل والنقل»(7).
ويقول تقي الدين الحصني: «ومما انتقد عليه ـ وهو من أقبح القبائح ـ ما ذكره في مصنفه المسمى بحوادث لا أوّل لها.. وهذه التسمية من أقوى الأدلّة على جهله، فإن الحادث مسبوق بالعدم، والأول ليس كذلك»(8).
(1) ط على هامش منهاج السنة 2/291.
(2) منهاج السنة 2/127.
(3) مراتب الاجماع: 167.
(4) نقد مراتب الإجماع: 168.
(5) شرح حديث عمران بن حصين: 193.
(6) فتح الباري ـ كتاب التوحيد، باب كان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم 13/410.
(7) إتقان الصنعة: 32ـ33.
(8) دفع الشبه ـ مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم: 118.