زعمه بأنّ كلام الله تعالى بصوت وحرف
يقول ابن تيمية كما في فتاويه:
«.. وأن الله تعالى متكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد، لا صوت القارىء ولا غيره، وأن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق، ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد..»(1).
وقال:
«.. عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريّتك بعثاً إلى النار…»(2).
وقال:
«.. ويذكر عن جابر بن عبدالله; عن عبدالله بن أنيس، سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديّان..»(3).
الردّ على ابن تيمية:
ونبدأ ذلك بذكر تناقض ابن تيمية وردّه على نفسه.. فإن التناقض هو أوّل مراتب الفساد كما يقول هو نفسه.
يقول ابن تيمية كما في فتاويه:
«(الوجه الرابع عشر) وأما قولهم: ولا يقول أن كلام الله حرف وصوت قائمٌ به بل هو معنى قائم بذاته، فقد قلت في الجواب المختصر البديهي: ليس في كلامي هذا أيضاً، ولا قلته قط، بل قول القائل إن القرآن حرف وصوت قائمٌ به بدعة، وقوله إنه معنى قائم به بدعة، لم يقل أحد من السلف لا هذا ولا هذا، وأنا ليس في كلامي شيء من البدع، بل في كلامي ما أجمع عليه السلف إن القرآن كلام الله غير مخلوق»(4).
ثم نتساءل: هل الإدّعاء بأن كلام الله بصوت وحرف ثم القول بعد ذلك لا كأصواتنا ولا كحروفنا.. هل هذا كاف في التنزيه ونفي التشبيه؟ لنترك ابن تيمية يجيب على هذا التساؤل ليكون حجة على نفسه… قال:
«.. وأما في طرق الإثبات، فمعلوم أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، إذ لو كفى في إثباته مجرد نفي التشبيه، لجاز أن يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه، وكما لو قال المفتري يأكل لا كأكل العباد ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم، كما يقال يضحك لا كضحكهم ويفرح لا كفرحهم ويتكلّم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر وغير ذلك، مما يتعالى الله عزّوجلّ عنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً..»(5).
إذن، التسليم بالإشتراك في المعنى العام وهو الصوت والحرف، ثم القول بأنه لا كالأصوات ولا كالحروف.. هذا لا ينفي التشبيه وإن ادعى صاحبه ذلك.. لأن ما سلّم به هو معنى من معاني الحدوث، فكأنه يقول حادث لا كالحوادث.. وهذا تناقض صريح.. باعتبار ما أقرّ به ابن تيمية نفسه.
ثم نسأل ابن تيمية: هل هناك وجه لمخالفة صوته (تعالى الله عن ذلك) لأصواتنا؟… هنا يجيب ابن تيمية… يقول:
«.. إن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب»(6).
فلا وجه إذاً للمخالفة… غير أن صوته يسمع من قرب كما يسمع من بعد.. ولا ندري ماذا يكون موقف ابن تيمية فيما توصل إليه البشر من تقريب الأصوات حتى سمعت من بعد كما سمعت من قرب بوسائل الإعلام والإتصال الحديثة، هل كان يصرّ على رأيه بأن السماع من بعد كالسماع من قرب كاف في المخالفة للحوادث والتنزيه؟
.. ثمّ يمضي ابن تيمية في تقرير معاني التشبيه.. فيقول:
«.. وحديث ابن مسعود: إذا تكلّم الله بالوحي سمع له صوت كجرّ السلسلة على الصفوان»(7).
ويقول:
«.. وحديث الزهري قال: لما سمع موسى كلام ربّه قال: يا ربّ هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلّمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوّة الألسن كلّها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلّمتك على قدر ما تطيق بذلك، ولو كلّمتك بأكثر من ذلك لمت. قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا: صف لنا كلام ربك، فقال: سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم؟ قالوا فشبّهه، قال: أسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله.
فقوله: إنما كلّمتك بقوّة عشرة آلاف لسان، أي لغة. ولي قوة الألسن كلّها، أي اللغات كلّها، وأنا أقوى من ذلك، فيه بيان أن الكلام بقوة الله وقدرته، وأنه يقدر أن يتكلّم بكلام أقوى من كلام. وهذا صريح في قول هؤلاء كما هو صريح في أنه كلّمه بصوت وكان يمكنه أن يتكلّم بأقوى من ذلك الصوت وبدون ذلك الصوت»(8).
ولا ندري لِمَ عدل ابن تيمية عن الظاهر ـ على غير عادته ـ وفسّر قوّة الألسن باللغة، ولكن هذا لا ينفي التشبيه، بل يكاد تعبيره ينفح بالجارحة، فهل اللغات إلاّ حروفاً ولهجات؟ ومن العجيب أن ابن تيمية لم يقل ـ كعادته في جدله ـ لغات لا كلغاتنا.
وقول ابن تيمية بأنه (يقدر أن يتكلّم بكلام أقوى) إثبات للتفاوت بين كلام الله تعالى، بل هو إثبات للنقص (تعالى الله عن ذلك)، لأن ما تكلّم به يعتبر ناقصاً بالنسبة للأقوى الذي لم يتكلّم به سبحانه وتعالى.
وابن تيمية حينما أثبت التفاوت بين كلام الله تعالى لم يقتصر على إثبات التفاوت في قوة الألسن باعتبار اللغات كما فسّره أولا، بل أردف ذلك بإثبات التفاوت في الصوت فقال: «وكان يمكنه أن يتكلّم بأقوى من ذلك الصوت وبدون ذلك الصوت».. فقد أثبت صوتاً يرتفع وينخفض ويقوى ويقلّ عن ذي قبل.
فهل هناك معنى أن يقال بجانب ذلك هو صوت لا كأصواتنا؟
ثم إن هذا النص يحمل معه دليل فساد نقله وبطلانه… إذ كيف تكون الصواعق في أحلى حلاوة تسمع… والقرآن الكريم يتحدّث عن الصواعق بخلاف ذلك، قال تعالى (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء). وقال تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَاد وَثَمُودَ)وقال تعالى (يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)… وغير ذلك.
ومن دلائل ابن تيمية ما ذكره بقوله:
«.. من المعلوم أن العجز عن النطق والفعل صفة نقص، فالنطق والقدرة صفة كمال»(9).
نقول: لقد زعمت أنك سلفيٌّ تصف الله بما وصف به نفسه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه.. وبما ورد في الكتاب والسنة.. فقل لنا ـ يا ابن تيمية ـ أين ورد لفظ «النطق» وصفاً لله تعالى؟
إن الذي ورد به الوصف أنه تعالى قال (وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) فلِمَ لم تلتزم ما ألزمت نفسك به؟ أليس هذا مناقضاً لمنهجك الذي تدّعيه لنفسك؟. فضلا عن مخالفتك للسلف، باختراعك لهذا اللفظ الذي فيه من الإستلزامات الباطلة المستحيلة على الله تعالى!
وأمّا عمّا استدل به ابن تيمية من نصوص… فقد نقل الكوثري عن أبي بكر ابن العربي في العارضة ما يلي:
«.. لا يحلّ لمسلم أن يعتقد أن كلام الله صوت وحرف، لا من طريق العقل ولا من طريق الشرع، فأما طريق العقل فلأن الصوت والحرف مخلوقان محصوران، وكلام الله يجلّ عن ذلك كلّه. وأما طريق الشرع فلأنه لم يرد في كلام الله صوت وحرف من طريق صحيحة.. ولهذا لم نجد طريقاً صحيحة لحديث ابن أنيس وابن مسعود».
.. وأنت تعلم مبلغ استبحار ابن العربي في الحديث في نظرهم، وجزء (الصوت) للحافظ أبي الحسن المقدسي لا يدع أيّ متمسك في الروايات في هذا الصدد لهؤلاء الزائغين، ومن رأى نصوص فتاوى العزّ بن عبد السلام وابن الحاجب الحصيري والعلم السخاوي ومن قبلهم ومن بعدهم من أهل التحقيق ـ كما هو مدون في (نجم المهتدي) و(دفع الشبه) وغيرهما ـ يعلم مبلغ الخطورة في دعوى أن كلام الله حرف وصوت. ولا تصح نسبة الصوت إلى الله تعالى إلاّ نسبة ملك وخلق. لكن هؤلاء رغم تضافر البراهين ضدّهم، ودثور الآثار التي يريدون البناء عليها، يعاندون الحق، ويظنّون أن كلام الله من قبيل كلام البشر الذي هو كيفية اهتزازية تحصل للهواء من ضغطه باللهاة واللسان، تعالى الله عن ذلك. ويدور أمرهم بين التشبيه بالصنم أو التشبيه بابن آدم.. أولئك كالأنعام بل هم أضل. يقول الكوثري:
«.. بل من قال إن كلام معبوده حرف وصوت قائمان به، فهو الذي نحت عجلا جسداً له خوار، يحمل أشياعه على تعبّده»(10).
ويقول: «إن كان يريد حديث جابر بن عبدالله عن عبدالله بن أنيس: ويحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب..» الحديث.. فهو حديث ضعيف علّقه البخاري بقوله: ويُذكَر عن جابر، دلالة على أنه ليس من شروطه، ومداره عن عبدالله بن محمّد بن عقيل، وهو ضعيف باتّفاق، وقد انفرد عنه القاسم بن عبد الواحد وعنه قالوا: إنه ممّن لا يحتجّ به.
وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في الحديث المذكور.
وأما إن كان يريد حديث أبي سعيد الخدري: يقول يا آدم يقول لبيك وسعديك فينادى بصوت إن الله يأمرك.. الحديث. فلفظ (ينادي) فيه على صيغة المفعول جزماً بدليل (إن الله يأمرك) ولو كان على صيغة الفاعل لكان إني آمرك، كما لا يخفى. على أن لفظ (بصوت) انفرد بن حفص به غياث، وخالفه وكيع وجرير وغيرهما فلم يذكروا الصوت، وسئل أحمد عن حفص هذا فقال: كان يخلط في حديثه كما ذكره ابن الجوزي. فأين حجة الناظم في مثله؟
على أن الناظم نفسه خرّج في حادي الأرواح وفي هامشه أعلام الموقعين (2ـ97) عن الدار قطني من حديث أبي موسى: يبعث الله يوم القيامة منادياً بصوت يسمعه أولهم وآخرهم… الحديث. وهذا يعين أن الإسناد مجازي على تقدير ثبوت الحديثين.. فظهر بذلك أن الناظم متمسك في ذلك بالسراب»(11).
ويقول تقي الدين السبكي:
«.. اللفظ الذي في البخاري (فينادى بصوت) وهذا محتمل لأن تكون الدال مفتوحة والفعل لم يسمّ فاعله، وأن تكون مكسورة فيكون المنادي هو الله. فنقله عن البخاري نداء الله ليس بصحيح (قال ابن القيم: وأذكر حديثاً في صحيح محمّد ذاك البخاري، فيه نداء الله يوم معادنا بالصوت) والعدالة في النقل أن ينقل المحتمل محتملا. وإذا ثبت أن الدال مكسورة فلِمَ يقول إن الصوت منه؟ فقد يكون من بعض ملائكته أو من يشاء الله..»(12).
.. هذا، وقد سبق نقل ما قاله ابن القيم بتأويل «القرب» في قوله تعالى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)وترجيحه القول بأن المراد قرب ملائكته منه، سواء سمى ذلك تأويلا أم لم يسمّه.
وأما ما ذكره من حديث: أن الله تعالى كلّم موسى بصوت يشبه الصواعق، فهو حديث موضوع.. ذكره ابن الجوزي في الموضوعات.. وعلّق عليه بقوله: وليس به لبس بصحيح.. والفضل متروك. نقل ذلك عنه السيوطي في كتابه: اللآلىء المصنوعة(13).
وقد ذكر القاضي الباقلاني البصري المتوفى سنة 403 في كتابه (الإنصاف) فيضاً من الأدلة على تنزيه الله عن الحرف والصوت.. ونقل من ذلك قول الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام: «إن الله تعالى كلّم موسى عليه السلام بلا جوارح ولا أدوات ولا حروف ولا شفة ولا لهوات، سبحانه عن تكيف الصفات»(14).
وقال:
«.. وأيضاً: فإن الحروف تحتاج إلى مخارج، فحرف الشفة غير حرف اللسان، وحرف الحلق غيرهما، فلو كان تعالى يحتاج في كلامه إلى الحروف لاحتاج إلى المخارج، وهو منزه عن جميع ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون. وأيضاً: فإن الحروف متناهية معدودة محدودة، وكلام الله تعالى قديم لا مفتتح لوجوده ولا نهاية لدوامه، كعلمه وقدرته ونحو ذلك من صفات ذاته، وقد أكّد تعالى ذلك بغاية التأكيد، وأن كلامه لا يدخله العد والحصر والحد بقوله تعالى (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً). وقال (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) فأخبر تعالى في هاتين الآيتين أنه لا نهاية لكلامه، إذ كلّ ما له نهاية له بداية، وإنما تتصور النهاية في حق من يتصوّر في حقه البداية»(15).
وقد ردّ الباقلاني على ما أورده المخالفون من الأحاديث، وأجاب بأجوبة عديدة.. منها قوله: بأن حديث ابن أنيس قد روي فيه ما يدل على أن الصوت من غير الله بأمره… ثم قال:
«.. فصح أن النداء من غيره، لكن لما كان بأمره أضيف النداء إليه كما يقال: نادى الخليفة في بغداد بكذا وكذا. ويقال أمر الخليفة منادياً فنادى بأمره في بغداد بكذا وكذا.ولا فرق بين الموضعين. فإن كلّ عاقل يعلم أن الخليفة لم يباشر النداء بنفسه، لكن لما كان بأمره جاز أن يضيفه إلى نفسه وأن يضاف إليه وإن لم يكن هو المنادي بنفسه. ويصحح جميع ذلك القرآن قال الله (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَان قَرِيب * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)».
«ومن عجيب الأمر، أن الجهال لا يجوزون أن يكون النداء صفة المخلوق، إذا كان رفيع القدر في الدنيا كالخليفة والأمير وينفون عنه ذلك، ثم يجوّزونه في حق رب العالمين.
جواب آخر: وهو أن كلّ ما أضيف إلى الله تعالى لا يجب أن يكون صفة له، فمن زعم هذا فقد كفر وأشرك لا محالة، لأن الخبر قد جاء بقول الله تعالى: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، جعت فلم تطعمني، عطشت فلم تسقني، عريت فلم تكسني. فأضاف هذه الأشياء إليه في الخبر، ومن زعم أنه يجوع ويعطش ويمرض ويعرى فقد كفر وأشرك لا محالة. وكذلك قال تعالى (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ)على قراءة من قرأ بالنون ]المفتوحة[ والنافخ إسرافيل، وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ) فأضاف الأذية إليه. ومن زعم أن الأذية من صفته فقد كفر لا محالة»(16).
وأما ما رواه ابن تيمية عن ابن مسعود: إذا تكلّم الله بالوحي سُمِعَ له صوت كجرّ السلسلة على الصفوان.. فإنّه مع وقفه يجاب عنه بأجوبة:
أوّلها:.. أنه قد روى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله أنه قال: إذا تكلّم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان.. وفي رواية: سمع أهل السماء للسماء صلصلة..
ثانيها:.. روى مسلم عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا تكلّم الله بالوحي أخذت السماوات منه رجفة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخرّوا سجّداً، وأوّل من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيتكلّم الله من وحيه بما أراد، فينتهي به جبريل عليه السلام على الملائكة كلّما مرّ بسماء سأل أهلها ماذا قال ربّنا؟ فيقول جبريل: الحق وهو العلي الكبير. فثبت أن ما سمعوا هو صوت رجفة السماوات لا كلام الله تعالى… ولذا سألوا جبريل عليه السلام; ماذا قال ربّنا؟ فدلّ على أنهم لم يسمعوا كلامه.. لأنهم لو سمعوا كما سمع جبريل لفهموا كما فهم.
ثالثاً: روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان.. فالصوت هذا مضاف هنا إلى أجنحة الملائكة لا إلى كلام الله تعالى.
ومن جملة هذه الأجوبة يصير الخبر حجة على ابن تيمية لا حجة له.
(1) الفتاوى الكبرى 5/124.
(2) المصدر 5/128.
(3) المصدر 5/117.
(4) الفتاوى الكبرى 5/33.
(5) الرسالة التدمرية: 88.
(6) شرح العقيدة الاصفهانية: مذهب السلف حول الصوت الذي تكلم الله به: 67.
(7) شرح العقيدة الاصفهانية: الكلام في الايمان والقدر وأشراط الساعة وغيرها: 66.
(8) الفتاوى الكبرى 5/110.
(9) شرح العقيدة الاصفهانية: الطرق العقلية للسلف في تقرير مسألة الكلام: 133.
(10) الرد على النونية: 172.
(11) الرد على النونية: 63.
(12) الردّ على النونيّة: 64.
(13) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ـ كتاب التوحيد 1/12.
(14) الانصاف ـ مسألة في بيان عدم اتصاف كلام الله بالحروف والاصوات: 151ـ152.
(15) الإنصاف: 154.
(16) الانصاف ـ فصل الرد على من زعم اتصاف كلام الله بالصوت: 183ـ184.