3 ـ خلافة عثمان وأفضليّته
واضطربت كلمات ابن تيميّة حول عثمان وقضاياه اضطراباً شديداً، إنه يتحفّظ بشدة عن التصريح بأفضليّته على علي كتصريحه بأفضليّة أبي بكر عليهما، فحين يدخل في بحث المفاضلة بين علي وعثمان يقول: هما روايتان عن مالك وأحمد، ويذكر أقوالا تتلخّص في: القول بتقديم علي، والقول بتقديم عثمان والسكوت والتوقف(1)…
إلاّ أنّه عند ما يريد تفضيل عثمان ينسب إلى «العلماء» الإستدلال لأفضليّته بطريقين:
الأول: «الطريق التوقيفي، فالنصّ والإجماع. أمّا النص ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: كنّا نقول ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حي: أفضل اُمّة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده: أبو بكر ثم عمر ثمّ عثمان.
وأمّا الإجماع، فالنقل الصحيح قد أثبت أن عمر قد جعل الأمر شورى في ستة، وأن ثلاثة تركوه لثلاثة: عثمان وعلي وعبد الرحمن، وأن الثلاثة اتّفقوا على أنّ عبد الرحمن يختار واحداً منهما، وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيّام ـ حلف أنه لم ينم فيها كبير نوم ـ يشاور المسلمين. وقد اجتمع بالمدينة أهل الحلّ والعقد حتى اُمراء الأنصار، وبعد ذلك اتّفقوا على مبايعة عثمان بغير رغبة ولا رهبة، فيلزم أن يكون عثمان هو الأحق، ومن كان هو الأحق كان هو الأفضل… وإنما قلنا: يلزم أن يكون هو الأحق، لأنه لو لم يكن ذلك للزم إما جهلهم وإما ظلمهم… وكلاهما منتف، لأنهم أعلم بعثمان وعلي منّا… وكونهم علموا الحق وعدلوا عنه أعظم وأعظم، فإن ذلك قدح في عدالتهم!…
وأمّا: الطريق النظريّة، فقد ذكر ذلك من ذكره من العلماء فقالوا:
عثمان كان أعلم بالقرآن، وعلي أعلم بالسنّة، وعثمان أعظم جهاداً بماله، وعلي أعظم جهاداً بنفسه. وعثمان أزهد في الرياسة، وعلي أزهد في المال. وعثمان أورع عن الدماء، وعلي أورع عن الأموال. وعثمان حصل له من جهاد نفسه حيث صبر عن القتال ولم يقاتل مالم يحصل مثله لعلي… وسيرة عثمان في الولاية كانت أكمل من سيرة علي.
فقالوا: فثبت أن عثمان أفضل، لأن علم القرآن أعظم من علم السنّة… وعثمان جمع القرآن كلّه بلا ريب، وكان أحياناً يقرؤه في ركعة، وعلي قد اختلف فيه: هل حفظ القرآن كلّه أم لا؟ والجهاد بالمال مقدّم على الجهاد بالنفس… وأيضاً، فعثمان له من الجهاد بنفسه بالتدبير في الفتوح ما لم يحصل مثله لعلي… وأمّا الزهد والورع في الرياسة والمال، فلا ريب أن عثمان تولّى ثنتي عشرة سنة، ثم قصد الخارجون عليه قتله وحصروه وهو خليفة الأرض والمسلمون كلّهم رعيّته، وهو مع هذا لم يقتل مسلماً ولا دفع عن نفسه بقتال، بل صبر حتى قتل، لكنه في الأموال كان يعطي لأقاربه من العطاء ما لا يعطيه لغيرهم… وعلي رضي الله عنه لم يخص أحداً من أقاربه بعطاء، لكن ابتدأ بالقتال لمن لم يكن مبتدئاً بالقتال، حتى قتل بينهم ألوف مؤلّفة من المسلمين… والمقصود أن كليهما ـ رضي الله عنهما ـ وإن كان ما فعله فيه هو متأوّل مجتهد، يوافقه عليه طائفة من العلماء المجتهدين، الذين يقولون بموجب العلم والدليل، ليس لهما عمل يتّهمون فيه، لكن اجتهاد عثمان كان أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة، فإن الدماء خطرها أعظم من الأموال. ولهذا كانت خلافة عثمان هادية مهديّة ساكنة…
قالوا: وإن كان علي تزوّج بفاطمة رضي الله عنهما، فعثمان قد زوّجه النبي صلّى الله عليه وسلّم ابنتين من بناته، وقال: لو كان عندنا ثالثة لزوّجناها عثمان; وسمي ذو النورين بذلك، إذ لم يعرف أحد جمع بين بنتي نبي غيره.
وقد صاهر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من بني اُمية من هو دون عثمان: أبو العاص بن الربيع، فزوّجه زينب أكبر بناته، وشكر مصاهرته محتجّاً به على علي لمّا أراد أن يتزوّج بنت أبي جهل.. وهكذا مصاهرة عثمان له، لم يزل فيها حميداً، لم يقع منه ما يعتب عليه فيها حتّى قال: لو كان عندنا ثالثة لزوّجناها عثمان، وهذا يدل على أنّ مصاهرته للنبي صلّى الله عليه وسلّم أكمل من مصاهرة علي له. وفاطمة كانت أصغر بناته، وعاشت بعده، واُصيبت به، فصار لها من الفضل ما ليس لغيرها. ومعلوم أن كبيرة البنات في العادة تزوّج قبل الصغيرة..
قالوا: وشيعة عثمان المختصّون به كانوا أفضل من شيعة علي المختصّين به وأكثر خيراً وأقلّ شرّاً… فالشرّ والفساد الذي في شيعة علي أضعاف أضعاف الشرّ والفساد الذي في شيعة عثمان، والخير والصّلاح الذي في شيعة عثمان أضعاف أضعاف الخير الذي في شيعة علي. وبنو اُميّة كانوا شيعة عثمان، فكان الإسلام وشرائعه في زمنهم أظهر وأوسع ممّا كان بعدهم…»(2).
بل يحاول ابن تيميّة أن ينسب القول بأفضليّة عثمان على علي عليه السّلام إلى شيعة علي القدماء، لكن لا يجرأ على التصريح بذلك، وهذه عبارته: «ولم يتهم أحد ممن الشيعة الأولى بتفضيل علي على أبي بكر وعمر، بل كانت عامّة الشيعة الاُولى الذين يحبّون علياً يفضّلون عليه أبا بكر وعمر! ولكن كان فيهم طائفة ترجّحه على عثمان، وكان الناس في الفتنة صاروا شيعتين، شيعة عثمانيّة وشيعة علويّة. وليس كلّ من قاتل مع علي كان يفضّله على عثمان، بل كان كثير منهم يفضّل عثمان عليه»(3).
(1) منهاج السنة 2/73.
(2) منهاج السنة 8/225ـ238.
(3) منهاج السنة 4/132.