هل كان للطوسي ضلع في قتل المستعصم؟
أقول:
هذا كلام ابن تيميّة في سبّ الطوسي والعلامة وعامة الإمامية وشتمهم وتكفيرهم… ولا نرى ضرورةً للإجابة على ما ذكره بشيء.
إنّ الإستدلال الذي نقله العلامة عن شيخه نصير الدين الطوسي استدلالٌ متين مستند إلى حديثين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، متّفق عليهما… ولا جواب عن هذا الإستدلال بعد تماميّة سنديهما ووضوح دلالتهما وصحّة الاستنتاج منهما، وكان لابدّ وأن يقابل هذا الإستدلال بالسبّ والشتم والتكفيير… كسائر المسائل والإستدلالات الواردة في الكتاب!!
وأيضاً: فإنّ نصير الدين الطوسي من كبار الفلاسفة، ومن أعلام العلوم العقلية في الإسلام، وابن تيميّة يجهل هذه العلوم، و«الناس أعداء ما جهلوا» كما عن أميرالمؤمنين عليه السّلام.
وأيضاً: فإنّ كتاب (التجريد) للنصير الطّوسي من أتقن الكتب الكلامية وأمتن المتون الإعتقاديّة، أثبت فيه عقائد الإمامية بالبراهين العقليّة والأدلّة المعتبرة النقليّة، وهذا ما يثير غضب القوم من أمثال ابن تيمية عليه.
كلّ هذه الاُمور واضحة، وهي تسبّب بل توجب شتمه وسبّه عند ابن تيميّة ومن كان على مذهبه…
لكنّ المهمّ ـ الآن ـ التحقيق عمّا اتّهمه به من إشارته على هولاكو بقتل المستعصم وسائر المسلمين في فتح بغداد!!
لقد كانت الواقعة في بغداد سنة: 656، وابن تيميّة ولد سنة: 661 في حرّان، ومات في قلعة دمشق سنة: 728.
فالرجل لم يشهد الواقعة، ولم يكن من أهل بغداد، بل لم يقدم إلى العراق أصلا… فلا يجوز الإعتماد على أقوال منه كهذه، بغضّ النظر عمّا هنالك من أغراض ودوافع!!
فلنرجع إلى من عاصر الواقعة من أهل بغداد، لا أقول من الشيعة… وليكن من أهل السنّة!!
ولعلّ خير كتاب يمكننا الرجوع إليه والإعتماد عليه في هذه القضية كتاب (الحوادث الجامعة) لابن الفوطي الحنبلي البغدادي، المتوفّى سنة: 723.
قال الحافظ الذهبي: «إبن الفوطي ـ العالم البارع المتفنّن، المحدّث المفيد، مؤرّخ الآفاق، مفخر أهل العراق، كمال الدين أبو الفضائل عبد الرزاق بن أحمد بن محمّد بن أبي المعالي الشيباني، ابن الفوطي، نسبةً إلى جدّ أبيه لأمّه، ويعرف أيضاً بابن الصّابوني، ينتسب إلى الأمير معن بن زائدة، وأصله مروزي.
مولده في المحرم سنة اثنتين وأربعين وستّ مائة ببغداد، وأسر في الوقعة(1) وهو حَدَث.
ثم صار إلى اُستاذه ومعلّمه خواجا نصير الطّوسي في سنة ستين وستِّ مائة فأخذ عنه علوم الأوائل، ومهر على غيره في الأدب، ومهر في التاريخ والشعر وأيّام الناس، وله النظم والنثر، والباع الأطول في ترصيع تراجم الناس، وله ذكاء مفرط وخط منسوب رشيق، وفضائل كثيرة، سمع الكثير وعني بهذا الشأن…»(2).
وذكره الذهبي في كتابه (المعجم المختص) بتراجم مشايخه.
ووصفه ابن شاكر الكتبي بـ «الشيخ الإمام المحدّث المؤرّخ الأخباري الفيلسوف»(3).
وقال ابن كثير: «الإمام المؤرخ كمال الدين الفوطي أبو الفضل عبد الرزاق… ولد سنة 642 ببغداد وأسر في واقعة التتار، ثم تخلّص من الأسر فكان مشرفاً على الكتب بالمستنصرية، وقد صنف تاريخاً في خمس وخمسين مجلداً، وآخر في نحو عشرين، وله مصنفات كثيرة، وشعر حسن، وقد سمع الحديث من محيي الدين ابن الجوزي.
توفي ثالث المحرم، ودفن بالشونيزية»(4).
فهذا العالم المؤرّخ الحنبلي البغدادي، الذي اُسر في الوقعة، وعاصرها وعاشر النصير الطوسي، وألّف كتابه المذكور بعد الوقعة بسنة واحدة(5)… لا يوجد في شرحه للوقائع ما يشير إلى شيء ممّا جاء في كلام ابن تيميّة…!!
ثم نجد ابن الطقطقي المولود سنة: 660 والمتوفى سنة: 709(6) يروي الحوادث بواسطة واحدة، ولا ذكر لنصير الدين الطوسي فيها إلاّ في مورد واحد، قال ـ وهو يبيّن دخول ابن العلقمي على هولاكو ـ: «وكان الذي تولّى ترتيبه في الحضرة السلطانية: الوزير السعيد نصير الدين محمّد الطوسي، قدس الله روحه»(7).
ثم ننتقل إلى تاريخ أبي الفداء المولود سنة: 672 والمتوفّى سنة: 732، فنراه يذكر استيلاء التتر على بغداد وانقراض الدولة العباسيّة سنة: 656، وهذا نصّ عبارته:
«في أوّل هذه السنة قصد هولاكو ملك التتر بغداد، وملكها في العشرين من المحرّم، وقتل الخليفة المستعصم بالله. وسبب ذلك: إن وزير الخليفة مؤيّد الدين ابن العلقمي كان رافضيّاً، وكان أهل الكرخ أيضاً روافض، فجرت فتنة بين السنّية والشّيعة ببغداد على جاري عادتهم، فأمر أبو بكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهنّ الفواحش، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي، وكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد، وكان عسكر بغداد يبلغ مائة ألف فارس، فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل اقطاعاتهم، وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس، وأرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه يستدعيهم، فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم، وخرج عسكر الخليفة لقتالهم ومقدمهم ركن الدين الدوادار، والتقوا على مرحلتين من بغداد واقتتلوا قتالا شديداً، فانهزم عسكر الخليفة، ودخل بعضهم بغداد، وسار بعضهم إلى جهة الشام، ونزل هولاكو على بغداد من الجانب الشرقي، ونزل باجو ـ وهو مقدم كبير ـ في الجانب الغربي، على قرية قبالة دار الخلافة. وخرج مؤيّد الدين الوزير ابن العلقمي إلى هولاكو فتوثّق منه لنفسه، وعاد إلى الخليفة المستعصم وقال: إن هولاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم، ويريد أن يزوّج ابنته من ابنك أبي بكر، وحسّن له الخروج إلى هولاكو، فخرج إليه المستعصم في جمع من أكابر أصحابه، فأنزل في خيمته، ثم استدعى الوزير الفقهاء والأماثل، فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرّسون، وكان منهم محيي الدين ابن الجوزي وأولاده، وكذلك بقي يخرج إلى التتر طائفة بعد طائفة. فلمّا تكاملوا قتلهم التتر عن آخرهم، ثم مدّوا الجسر وعدى باجو ومن معه، وبذلوا السيف في بغداد، وهجموا دار الخلافة وقتلوا كلّ من كان فيها من الأشراف، ولم يسلم إلاّ من كان صغيراً فاُخذ أسيراً، ودام القتل والنهب في بغداد نحو أربعين يوماً، ثم نودي بالأمان.
وأمّا الخليفة فإنهم قتلوه ولم يقع الإطّلاع على كيفيّة قتله، فقيل: خنق، وقيل: وضع في عدل ورفسوه حتى مات، وقيل: غرق في دجلة. والله أعلم بحقيقة ذلك.
وكان هذا المستعصم… ضعيف الرأي، قد غلب عليه اُمراء دولته لسوء تدبيره… وهو آخر الخلفاء العباسيين»(8).
وهذا الذهبي، المولود سنة: 673، والمتوفى سنة: 748 ـ وهو من أتباع ابن تيميّة في كثير من المسائل، وحتّى أنّه لخّص (منهاج السنّة) ـ يقول في حوادث سنة: 656:
«كان المؤيّد ابن العلقمي قد كاتب التتار وحرّضهم على قصد بغداد، لأجل ما جرى على إخوانه الرافضة من النهب والخزي…»(9) فذكر الواقعة كما تقدّم عن أبي الفداء، وليس فيها ذكر لنصير الدين الطوسي أصلا.
وهذا ابن شاكر الكتبي المولود سنة: 686 كما قيل، والمتوفى سنة: 764، يترجم في كتابه الخليفة العباسي (المستعصم) وللطوسي (نصير الدين) وللسلطان التتري (هولاكو) فلا يذكر شيئاً مما نسبه ابن تيميّة إلى نصير الدين الطوسي أصلا.
وهذا ما جاء بترجمة الخليفة: «كان متديناً متمسّكاً بمذهب أهل السنّة والجماعة على ما كان عليه والده وجدّه ـ رحمهم الله تعالى ـ، ولم يكن على ما كانوا عليه من التيقّظ والهمّة، بل كان قليل المعرفة والتدبير والتيقّظ، نازل الهمّة، محبّاً للمال، مهملا للاُمور، يتّكل فيها على غيره، ولو لم يكن فيه إلاّ ما فعله مع الملك الناصر داود في الوديعة لكفاه ذلك عاراً وشناراً، والله لو كان الناصر من الشعراء وقد قصده وتردّد عليه على بعد المسافة ومدحه بعدّة قصائد كان يتعيّن عليه أن ينعم عليه بقريب من قيمة وديعته من ماله، فقد كان في أجداد المستعصم بالله من استفاد منه آحاد الشعراء أكثر من ذلك، إلى غير ذلك من الاُمور التي كانت تصدر عنه، مما لا يناسب منصب الخلافة، ولم يتخلّق بها الخلفاء قبله، فكانت هذه الأسباب كلّها مقدمات لما أراد الله تعالى بالخليفة والعراق وأهله، وإذا أراد الله تعالى أمراً هيّأ أسبابه.
واختلفوا كيف كان قتله، قيل: إن هولاكو لما ملك بغداد أمر بخنقه، وقيل: رفس إلى أن مات، وقيل: غرق. وقيل: لفّ في بساط وخنق، والله أعلم بحقيقة الحال.
وكانت واقعة بغداد وقتل الخليفة من أعظم الوقائع…»(10).
وهذا الصفدي المولود سنة 696 تقريباً، والمتوفى سنة: 764، ترجم الخليفة فقال: «كان حليماً، كريماً، سليم الباطن، حسن الديانة، متمسّكاً بالسنّة، ولكنه لم يكن كما كان عليه أبوه وجدّه من الحزم والتيقّظ، وكان الدوادار والشرابي لهم الأمر، وركن إلى ابن العلقمي الوزير فأهلك الحرث والنسل، وحسّن له جمع الأموال والاقتصار على بعض العساكر، وكان فيه شحّ وقلّة معرفة وعدم تدبير.
جاء هولاكو البلاد في نحو مائتي ألف فارس، وطلب الخليفة وحده، فطلع ومعه القضاة والمدرّسون والأعيان نحو سبع مائة نفس، فلمّا وصلوا إلى الحربيّة جاء الأمر بحضور الخليفة وحده ومعه سبعة عشر نفساً، فساقوا مع الخليفة وأنزلوا من بقي عن خيلهم وضربوا رقابهم، ووقع السيف في بغداد، وعمل القتل أربعين يوماً، وأنزلوا الخليفة في خيمة وحده والسبعة عشر في خيمة اُخرى.
ثمّ إن هولاكو أحضر الخليفة وجرت له معه ومع ابنه أبي بكر محاورات، واُخرجا ورفسوهما إلى أن ماتا وعفّي أثرهما…
وحدّثني شيخنا ابن الدباهي قال: لمّا بقي بين التتار وبين بغداد يومان اُعلم الخليفة حينئذ، فقال: عدلين يروحون يبصرون هذا الخبر إن كان صحيحٌ»(11).
وهذا ابن خلدون المولود سنة: 732، والمتوفى سنة: 808، يذكر في تاريخه خبر المستعصم آخر بني العباس ببغداد، فلم يصف الخليفة بما وصفه به غيره من الصفات الدنيئة الموجبة للعار والشّنار، والمسبّبة لما وقع به وبأهل بغداد، بل وصفه بقوله: «كان فقيهاً محدّثاً»!! ثم ذكر ما كان من السنّة ضدّ الشيعة في الكرخ، بأمر من الخليفة على يد ابنه أبي بكر وركن الدين الدوادار، ثم زحف هلاكو إلى العراق ودخول بغداد وقتل الخليفة وغيره…
وليس في شيء مما قال ذكر لنصير الدين الطوسي أصلا(12).
وذكر الجلال السّيوطي المتوفى سنة: 911 أخبار التتر، وورودهم إلى بغداد، وقتل الخليفة… وغير ذلك، في صفحات عديدة من تاريخه، وليس فيها ذكر لنصير الدين الطوسي ولا مرةً واحدة(13).
(1) يريد بالوقعة: سقوط بغداد على أيدي المغول.
(2) تذكرة الحفاظ، الترجمة 1173 4/1493.
(3) فوات الوفيات، الترجمة 272، 2/319.
(4) البداية والنهاية ـ حوادث سنة 723، 14/122.
(5) لأن تاريخ تأليفه سنة 657.
(6) هو: محمّد بن علي بن طباطبا، المعروف بابن الطقطقي، المتوفّى سنة: 709، صاحب كتاب: (الفخري في الآداب السّلطانية والدول الإسلامية)، وهو كتاب معتمد عند الجمهور، لالتزام مؤلّفه فيه بما ذكره بقوله: «والتزمت فيه أمرين: أحدهما ألاّ أميل فيه إلاّ مع الحق، ولا أنطق فيه إلاّ بالعدل، وأن أعزل سلطان الهوى وأخرج من حكم المنشأ والمربى، وأفرض نفسي غريباً منهم وأجنبيّاً بينهم. وثانيهما: أن اُعبّر عن المعاني بعبارات واضحة…».
(7) الفخري في الآداب السّلطانية، ويلاحظ تعبيره عنه بـ «الوزير السعيد» وقوله: «قدّس الله روحه».
(8) المختصر في أخبار البشر سنة 656، ذكر استيلاء التتر على بغداد وانقراض الدولة العباسية 3: 193 ـ 194.
(9) العبر في خبر من غبر سنة 656، 2: 269.
(10) فوات الوفيات، الترجمة 237، 2/230.
(11) الوافي بالوفيات الترجمة 6502، أمير المؤمنين المستعصم بالله، 17: 343 ـ 344.
(12) تاريخ ابن خلدون وفاة المستنصر وخلافة المستعصم آخر بني العباس ببغداد، 3: 536 ـ 543.
(13) تاريخ الخلفاء ـ المستعصم بالله، أبو أحمد: 464 ـ 473.