نزول سورة هل أتى فيهم، كذب
قال العلاّمة: «وهي تدلُّ على فضائل جمّة لم يسبقه إليها أحد، ولا يلحقه أحد، فيكون أفضل من غيره، فيكون هو الإمام»(1).
فقال ابن تيمية: «إن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتّفاق أهل المعرفة بالحديث، الذي هم أئمة هذا الشأن وحكّامه، وقول هؤلاء هو المنقول في هذا الباب، ولهذا لم يرو هذا الحديث في شيء من الكتب التي يرجع اليها في النقل، لا في الصحاح ولا في المساند ولا في الجوامع ولا السنن، ولا رواه المصنّفون في الفضائل، وإن كانوا قد يتسامحون في رواية أحاديث ضعيفة…
إن الدلائل على كذب هذا كثيرة، منها: إن علياً إنما تزّوج فاطمة بالمدينة… وسورة هل أتى مكيّة باتّفاق أهل التفسير والنقل، لم يقل أحد منهم إنها مدنيّة»(2).
أقول:
أمّا أنّ سورة (هل أتى) مدنيّة لا مكيّة، ففي تفسير البغوي ما نصّه: «سورة الإنسان، مدنيّة، وهى إحدى وثلاثون آية»(3) وكذا في غيره، بل هو قول الجمهور كما قال الشوكاني(4) والآلوسي عن ابن عادل(5) قال: «وعليه الشيعة».
وأمّا نزولها في أهل البيت عليهم السلام، فذاك ما رواه العلماء المفسّرون المحدّثون بتفسير السّورة، وذكروه بترجمة فاطمة الزهراء عليها السّلام من كتب معرفة الصّحابة وفي كتب المناقب، بل لقد وصف بعضهم الخبر في شأن نزولها بالشهرة(6).
وإن شئت فراجع:
تفسير الواحدي، والكشّاف، وعنهما الفخر الرازي 15/244، والدر المنثور 6/485، روح المعاني 15/174 عن ابن مردويه، والبيضاوي 2/552 والنسفي 2/758 والنيسابوري ـ هامش الطبري 12/112، والخازن 4/378 وغيرهم من المفسّرين.
وأسد الغابة في معرفة الصحابة 5/530، والإصابة 8/281 عن أبي موسى
المديني والثعلبي، والرياض النضرة في مناقب العشرة 2/180 وفرائد السمطين في فضائل النبي والوصي وفاطمة والسبطين 2/53 وكفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب: 348 عن الحاكم النيسابوري والحميدي وأبي الصّلاح، وتذكرة خواص الامّة: 281، ومطالب السؤول في مناقب آل الرسول: 127 عن الواحدي وغيره من أئمة التفسير…
تنبيه
إنّ المقصود أصل نزول السورة في حقّ أهل البيت، وأنت لو راجعت الكتب المذكورة وغيرها وجدتهم يروون الحديث بأسانيد عن ابن عبّاس وغيره، وقد جاء ذكر الخبر في تفسير القرطبي 19/131 ـ عن النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين كما قال ـ بتفصيل يشتمل على أشعار كثيرة، ثم جَعَلَ يكذّب الخبر بالنظر إلى تلك التفصيلات والأشعار. وابن الجوزي أدرجه في (الموضوعات) موهماً أن لا سند له إلاّ ما ذكره: وهو قوله: «أنبأنا محمّد بن ناصر قال: أنبأنا أبو عبدالله محمّد بن أبي نصر الحميدي قال، أنبأنا أبو علي الحسن بن عبد الرحمن البيع قال: أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق، أنبأنا عبد الله بن ثابت، حدّثنا أبي عن الهذيل بن حبيب، عن أبي عبدالله السمرقندي، عن محمّد بن كثير الكوفي، عن الأصبغ بن نباتة قال: مرض الحسن والحسين..» قال ابن الجوزي:
«وهذا حديث لا يشك في وضعه، ولو لم يدل على ذلك إلاّ الأشعار الركيكة والأفعال التي يتنزّه عنها أولئك السّادة. قال يحيى بن معين: أصبغ بن نباتة لا يساوي شيئاً، وقال أحمد بن حنبل: حرّقنا حديث محمّد بن كثير. وأمّا أبو عبدالله السمرقندي فلا يوثق به»(7).
أقول:
لقد أشرنا إلى أنّ المستدلّ به نزول الآيات في حق أهل البيت عليهم السّلام لإطعامهم المسكين واليتيم والأسير، وأمّا ذكر الخبر مع الأشعار وغيرها مما لا نلتزم بصحّته، وجعل ذلك ذريعةً للطّعن في أصل الخبر، فهذا ليس من شأن العلماء المنصفين الأتقياء.
وكذلك نقل الخبر بسند من أسانيده والطعن في أصل الخبر بسبب ذلك السند، وكم لهذا من ابن الجوزي من نظير، ولا سبب له إلاّ العناد والتعصّب.
ثمّ إنك إذا لاحظت كلمات القوم في الرجال الذين طعن فيهم ابن الجوزي في هذا السّند، لم تجد دليلا للطّعن إلاّ التشيع ورواية فضائل أهل البيت.
فأمّا (الأصبغ بن نباتة) فهو من التّابعين، وأخرج عنه ابن ماجة، وروى عنه جماعة من الأكابر، ووثّقه بعض الأعلام كالعجلي(8)… وتكلّم فيه غير واحد، وكلّ كلماتهم تعود إلى كونه من شيعة علي عليه السلام وروايته لفضائله، كقول ابن حبان: «فتن بحبّ علي بن أبي طالب عليه السلام، فأتى بالطامّات في الروايات فاستحقّ من أجلها الترك» وقول ابن عدي: «لم أخرج له هاهنا شيئاً، لأنّ عامّة ما يرويه عن علي لا يتابعه أحد عليه»(9).
فهذا هو السّبب في ترك بعض القوم حديثه.
ثم تأمّل في كلام ابن عدي بعد ذلك: «وإذا حدّث عن الأصبغ ثقة فهو عندي لا بأس بروايته، وإنّما أتى الإنكار من جهة من روى عنه، لأنّ الراوي عنه لعلّه يكون ضعيفاً» لتعرف الإضطراب منه ومن أمثاله عندما يريدون ردّ حديث رجل بلا دليل وسبب إلاّ التشيّع!!
وأمّا (محمّد بن كثير) فكذلك، فابن حنبل يقول: «خرقنا حديثه» ويحيى ابن معين يقول: «هو شيعي لم يكن به بأس… سمعت أنا منه»(10) فالرجل ثقة، لكنّ تشيعه يسبّب لأحمد أن يخرق حديثه! ولابدّ وأن يترك حديثه وهو يروي عن الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر، عن عبدالله بن مسعود، عن علي قال «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من لم يقل علي خير الناس فقد كفر»(11).
وأمّا (أبو عبد الله السمرقندي) فقد جرحه ابن الجوزي جرحاً غير مفسّر، ونحن لا نشك في أنّ سببه نفس رواية هذا الحديث…
هذا، وقد نصّ ابن تيمية على أن كون الراوي شيعيّاً لا يستلزم أن تكون رواياته كذباً(12).
ثم اعلم أنّ ابن تيميّة كذّب وجود خادمة لأهل البيت عليهم السلام، وجعل ذلك دليلا على كذب حديث المباهلة، لاشتماله على أنّ فضة خادمتهم نذرت الصّوم تبعاً لهم(13).
ويعدّ هذا الموضع من مئات المواضع التي أنكر فيها ابن تيميّة الحقائق الراهنة!! فإنّ فضّة كانت خادمة لأهل البيت عليهم السلام، وهي معدودة في الصحابة، كما لا يخفى على من راجع (اسد الغابة) و(الإصابة).
(1) منهاج السنة 7/177.
(2) منهاج السنة 7/177ـ179.
(3) تفسير البغوي ـ سورة الانسان 4/426.
(4) فتح القدير ـ تفسير سورة الانسان ـ 5/343.
(5) روح المعاني ـ سورة الإنسان 15/166.
(6) روح المعاني ـ سورة الإنسان 5/174.
(7) الموضوعات ـ باب في فضائل علي، الحديث الثالث والأربعون في ذكر الحسن والحسين 1/293.
(8) تهذيب الكمال ـ الترجمة 537، أصبغ بن نباتة التميمي ـ 3/310.
(9) المصدر، تهذيب التهذيب، الترجمة 585، 1/328.
(10) الجرح والتعديل الترجمة 308 محمد بن كثير القرشي 8/69، تاريخ بغداد الترجمة 1234 محمد بن كثير القرشي 3/191.
(11) تاريخ بغداد الترجمة 1234، محمد بن كثير القرشي، 3/192.
(12) منهاج السنة 7/312.
(13) منهاج السنة 7/182.