إن لابن تيميّة مؤلفات كثيرة ومتنوّعة… فله كتب في العقائد والتفسير والفقه… وغير ذلك.. كانت مورد الأخذ والرد، وموضع القبول والنقد، بين علماء طائفته، وما زالت كذلك، وإلى يومنا هذا.
لكنّ الجميع توافقوا على أنّ كتاب (منهاج السنّة) هو أهمّ وأوسع كتبه، وأنه الكتاب الذي أودع فيه مجمل عقائده، لا سيّما في المسائل الخلافية، سواء بين الشيعة والسنة، أو بين السنّة أنفسهم.
ومن هنا، فقد اهتمّ به مثل الذهبي، حيث اختصره في كتاب أسماء بـ (المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال)(1). ومثل صفي الدين عبد المؤمن البغدادي الحنبلي، المتوفى سنة 739، في كتاب أسماه بـ (المطالب العوال لتقرير منهاج الاستقامة والاعتدال).
ومما يدل على اهتمام القوم بهذا الكتاب، كثرة نسخه الخطيّة في مكتبات العالم، ثم استفادة المتأخرين عن ابن تيمية منه واعتمادهم عليه، لا سيّما كتّاب عصرنا، أصحاب المؤلّفات والمقالات في العقائد والفرق، وأرباب الكتب المؤلّفة ضدّ الشيعة الاثني عشرية، فإنّك إذا نظرت إلى كتاباتهم وجدتهم عيالا على ابن تيمية، ووجدت مطالبها منقولةً عن كتبه وخاصةً (منهاج السنّة) مع التصريح بذلك والإرجاع إليه أو بدون ذلك…
كما قد ذكرنا ـ في محلّه ـ كون ابن تيمية عيالا في كتابه المذكور على ابن حزم وابن الجوزي وابن العربي المالكي، وقد نبّه الصلاح الصفدي على كونه عيالا على ابن حزم، في كلامه الذي سننقله فيما بعد.
ولهذه الأسباب… فقد رأينا أن ندرس كتاب (منهاج السنّة) لنرى مدى موفقيّته في الردّ على (منهاج الكرامة) والشيعة الامامية الاثني عشرية، بعد الوقوف على مناهجه وأساليبه في البحث، وأيضاً لنتعرّف على ابن تيمية، في عقائده وعلومه ونفسيّاته.
لقد رأينا من الإنصاف أن نترك ما كتب عن الرجل، مدحاً أو قدحاً، وأن نمسك عن الحكم عليه أوله، قبل دراسة كتابه (منهاج السنّة) الذي هو أهمّ كتبه، دراسةً شاملة…
حتى إذا انتهينا من جولتنا العلمية التحقيقية في أعماق هذا الكتاب الكبير، واستخرجنا منه ما يمكن الوقوف به على واقع عقائد ابن تيمية، وحدود معلوماته، وحقائق نفسيّاته وأخلاقه.. كنّا قد حكمنا على ضوء ما نطق به لسانه وخطّ قلمه في أهم كتبه ومصنّفانه…
ولو أنّ جميع الأحكام التي تصدر بحقّ الأشخاص استندت إلى أقاريرهم، واعتمدت على أقوالهم الثابتة عنهم… لم يقع الخلاف حول واحد بين اثنين، ولارتفع كثير من الجدل والخلاف ـ من هذا النوع ـ من البين.
لقد ثبت ـ نتيجة هذه الدراسات ـ كونه قائلا بالتجسيم والجهة ونحو ذلك من العقائد… واستخرجنا جملةً من عقائده فيما يتعلّق بالنبوّة وغيرها… ثم عقدنا أبواباً لبيان عقائده وآرائه في مسائل الإمامة والخلافة، وما كان يعتقده في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأهل بيت النبيّ، وأصحابهم وشيعتهم… وعمدة ذلك: تنقيص أميرالمؤمنين، وإنكار مناقبه، والتحامل على الامامية، وخصصنا أحد الأبواب للوقوف على مناهجه في (منهاجه) والتي من خلالها يمكن التعرف على نفسياته، وحدود معلوماته، والتزامه بقواعد البحث وآداب المناظرة…
والآن، فقد آن الأوان لنقل كلمات العلماء الأعلام والمحققين الأعيان من أهل السنّة، حول ابن تيمية وعقائده وآرائه وأخلاقه… في خصوص (منهاج السنّة) وسائر كتبه:
كلمات في منهاج السنّة
لقد رأينا غير واحد من الأئمة الأعلام ينسبون إليه ما ذكرناه عنه من العقائد في الصّفات والتجسيم ونحو ذلك، كما جاء في كتابه.. كقول السّبكي، فإنّه وإن أثنى على (منهاج السنة) لكونه مؤلّفاً في الردّ على الاماميّة، غير أنّه قال:
«يرى حوادث لا مبدأ لأوّلها *** في الله سبحانه عمّا يظنُّ به»
وفي كونه معادياً لأمير المؤمنين مبغضاً له، كقول الحافظ ابن حجر العسقلاني، في موقفه من أميرالمؤمنين وأتباعه: «طالعت الردّ المذكور فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء، لكن وجدته كثير التحامل إلى الغاية في ردّ الأحاديث التي يوردها ابن المطهّر… ردّ في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد… وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدّته أحياناً إلى تنقيص علي رضي الله عنه».
وهذا الكلام من الحافظ ابن حجر العسقلاني مهمّ للغاية، لأنّه قال بترجمة ابن تيمية من (الدرر الكامنة):
«ومنهم من ينسبه إلى الزندقة…
ومنهم من ينسبه إلى النفاق، لقوله في علي ما تقدّم، ولقوله: إنه كان مخذولا حيثما توجّه، وأنّه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وانّما قاتل للرياسة لا للديانة…»(2).
وقد وجدنا هذه الكلمات منه في (منهاج السنّة)..
فكان الحافظ الذي نصّ على أنّ كلامه أدّى إلى «تنقيص علي» ممّن «ينسبه إلى النفاق».
وفي كونه فحّاشاً بذي اللّسان، كقول الصفدي في أنّه كان يقول عن ابن المطهر: «ابن المنجّس» ونحو ذلك…
(1) وهو مطبوع بهذا الاسم، وقد يسمّى بغيره أيضاً.
(2) الدرر الكامنة ـ الترجمة 409، أحمد بن عبد الحليم… بن تيمية الحراني 1/155.