نعم، لقد جاء ابن تيمية ليعلن من جديد ـ وبكلّ جرأة ـ ذاك الإعتقاد الفاسد، ويعارض الذين استدلّوا بقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ… وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ…) وينفي أن يكون في ظاهر اللفظ محذور، بل المراد من ألفاظ الكتاب ظواهرها، وليس فيها ما لا يفهمه أحد، فيقول:
«وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذي يتأولونه على غير تأويله، ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدّعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه، فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه. فإن كان الثابت حقاً ممكناً كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلا ممتنعاً كان الثابت مثله»…
ثم يقول… «وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً ويحتجّون بقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) قد يظنّون أنّا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد أو بما لا معنى له، أو بما لا يفهم منه شيء، وهذا مع أنه باطل فهو متناقض»(1).
وينسب إلى السّلف إجراء الألفاظ على ظواهرها، فيقول: «إن مذهب السلف إجراؤها على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها»(2).
لكن أيّ معنى لإجراء اللفظ على ظاهره مع نفي الكيفيّة والتشبيه؟
ويقول: «فالذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل»(3).
ثم يورد مثالا يوضّح رأيه فيقول: «وقال أبو عثمان النيسابوري الملقّب بشيخ الإسلام في رسالته المشهورة في السنّة قال: ويثبت أهل الحديث نزول الرب سبحانه في كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون له ما أثبته له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله. وكذلك يثبتون ما أنزل الله في كتابه من ذكر المجىء والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة وقوله عزّوجلّ: (وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)»(4).
فابن تيمية يخالف غيره ـ ممن سبق ذكرهم ـ في تصوير مذهب السلف، حيث قال بظاهر النصوص، ثم تناقض مع نفسه فقال: «إجراؤها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها».
أمّا غيره فقال: إن الظاهر الموهم للتشبيه غير مراد، ثم فوّض المعنى بعد ذلك إلى الله تعالى.
وسيأتي التصريح بذلك منه في بعض الكلمات الآتية أيضاً.
لكنَّ كبار العلماء من السّابقين واللاّحقين يبطلون ذلك الإعتقاد، وينفون أنْ يكون مذهب السّلف، وأن يكون رأي أحمد بن حنبل… كما تقدّم في كلام الشيخ محمّد أبو زهرة.
(1) الرسالة التدمرية: 72.
(2) الفتاوى الكبرى 5/129.
(3) شرح العقيدة الإصفهانية: مذهب السلف في الأسماء والصفات: 32.
(4) شرح العقيدة الإصفهانية: اقوال السلف في هذا الأصل: 63.