كلماته حول ما لاقته من الاُمّة بعد النبيّ
واضطربت كلمات ابن تيميّة في مسألة ما كان بين فاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ وبين أبي بكر، فأنكر أن تكون الزهراء طالبت بإرثها من أبيها وقولها لأبي بكر: «أترث أباك ولا أرث أبي؟» قال ابن تيمية: «لا يعلم صحّته عنها»(1).
لكنّه بعد ذلك لمّا ذكر بعض الأخبار في القضية قال:
«فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، وفيها ما يبيّن أن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ طلبت ميراثها من رسول الله…»(2).
وأنكر ـ هذه المرّة ـ أن تكون قد طالبت بشيء بعنوان النّحلة، قال: «ولم يسمع أن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ ادّعت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطاها إيّاها، في حديث ثابت متّصل، ولا أنَّ شاهداً شهد لها»(3).
وزعم أنها لمّا طالبت بالإرث وأجابها أبو بكر بأن رسول الله قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» سلّمت… «فاُخبرت بما كان من رسول الله فسلّمت ورجعت»(4).
ثم تمادى في غيّه وجعل يطعن في بضعة الرسول وقال: «وليس تبرئة الإنسان لفاطمة من الظنّ والهوى بأولى من تبرئة أبي بكر، فإن أبا بكر إمام لا يتصرّف لنفسه بل للمسلمين، والمال لم يأخذه لنفسه بل للمسلمين، وفاطمة تطلب لنفسها، وبالضرورة نعلم أنّ بُعد الحاكم عن اتّباع الهوى أعظم من بُعد الخصم الطالب لنفسه، فإنّ علم أبي بكر وغيره بمثل هذه القضيّة ـ لكثرة مباشرتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ـ أعظم من علم فاطمة.
وإذا كان أبو بكر أولى بعلم مثل ذلك وأولى بالعدل، فمن جعل فاطمة أعلم منه في ذلك وأعدل، كان من أجهل الناس، لا سيّما وجميع المسلمين الذين لا غرض لهم هم مع أبي بكر في هذه المسألة، فجميع أئمّة الفقهاء عندهم أنّ الأنبياء لا يورّثون مالا… وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: لا أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة. فكيف يسوغ للاُمّة أن تعدل عمّا علمته من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما يحكى عن فاطمة في كونها طلبت الميراث تظن أنها ترث»(5).
وقال: «فإذا كان المسلمون كلّهم ليس فيهم من قال: إن فاطمة رضي الله عنها مظلومة، ولا أنّ لها حقاً عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا أنهما ظلماها ولا تكلّم أحد في هذا بكلمة واحدة، دلّ ذلك على أنّ القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة، إذ لو علموا أنّها مظلومة، لكان تركهم لنصرتها إمّا عجزاً عن نصرتها، وإمّا إهمالا وإضاعة لحقّها، وإمّا بغضاً فيها… وكلا الأمرين باطل…»(6).
أقول:
وهنا مطالب نذكرها باختصار:
الأوّل: لقد اُعطى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فدكاً لابنته فاطمة عليها السّلام في حياته، ثم إنّ أبا بكر انتزع من فاطمة فدكاً، وهذا ما دلّت عليه أخبار القوم أيضاً، من ذلك ما أخرجه السيوطي بتفسير قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) عن البزار وأبي يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت هذه الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة فأعطاها فدك.
(قال): وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال: لمّا نزلت (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) أقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة فدكاً»(7).
فهذه روايات القوم صريحة في أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في مقام امتثال الأمر بإيتاء ذي القربى حقّه ـ «أعطى» و «أقطع» فاطمة فدكاً.. وأيّ حديث أصرح من هذا؟ ورواته أئمة أعلام يثق بهم ابن تيميّة وسائر أهل السنّة ويعتمدون عليهم!
فقول الرجل: «لم يسمع أن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ ادّعت أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطاها إيّاها…» كذب.
وقد استفدنا من هذا الحديث اُموراً:
الأول: كون فاطمة «ذي القربى».
والثاني: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطاها فدكاً بأمر من الله.
والثالث: إن فاطمة تسلّمت فدكاً من رسول الله.
والرابع: إنها كانت صاحبة اليد على فدك.
والخامس: إن أبا سعيد الخدري وابن عبّاس من الشهود.
فكان أخذ فدك منها إبطالا لأمر الله وردّاً على رسوله، ومخالفةً للشّريعة والدين، كما هو واضح.
والثاني: ثم إنّ فاطمة ـ بعد أن طلبت من أبي بكر رفع الإستيلاء منه على هذا الملك الحاصل لها إعطاءً وإقطاعاً من رسول الله، فلم يصدّقها، وأقامت الشّهادة فلم يصدّقهم ـ جاءت تطلب فدكاً وغير فدك بعنوان الإرث… وبهذا أحاديث صحاح كما اعترف الرجل.
والثالث: إن في نفس هذه الأحاديث تصريحاً بأنّها ـ سلام الله عليها ـ ماتت وهي واجدة على أبي بكر، مهاجرة له(8)… فقوله: «فسلّمت ورجعت» كذب عليها.
والرابع: إنّ ما استند إليه أبو بكر ـ أمام استدلالاتها من الكتاب الشريف والشريعة المطهّرة ـ ونسبه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ما هو إلاّ شىء انفرد به أبو بكر، ولم يسمعه أحد من الرسول… وقد نصَّ غير واحد من أكابر أئمة القوم على أنّه حديث واحد انفرد به هو:
قال السيوطي: «اختلفوا في ميراثه، فما وجدوا عند أحد من ذلك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»(9).
وقال ابن حجر المكي مثله(10).
بل إن أئمّة القوم في علم الاُصول يصرّحون بذلك، وعلى أساس ذلك يبحثون عن جواز تخصيص الكتاب به وعدم جوازه، لكونه خبر واحد، وعندما يبحثون في مسألة جواز التعبد بخبر الواحد يقول القائلون بالجواز بأنّ هذا خبر واحد من أبي بكر وقد عمل به… فراجع(11).
فدعوى رواية غيره لهذا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كذب.
والخامس: على أنّ من القوم من ينصُّ على أن أبا بكر أيضاً لم يسمعه من النبي ولم يروه، وإنما هذا شيء وضعه (مالك بن اُوس بن الحدثان)…!!
لقد قال هذا إمام كبير من أئمّة القوم في الحديث والرّجال، لكنّه لقوله هذا جعل بعضهم ـ كالذهبي ـ يسبُّه ويقول فيه القبيح… إنّ هذا الإمام هو: أبو محمّد عبد الرحمن بن يوسف المعروف بابن خراش، البغدادي، المتوفى سنة 283، قال ابن المديني: «كان من المعدودين المذكورين بالحفظ والفهم للحديث والرجال» وقال الخطيب: «كان أحد الرحّالين في الحديث إلى الأمصار وممن يوصف بالحفظ والمعرفة» وقال أبو نعيم: «ما رأيت أحفظ منه» وقال السيوطي: «ابن خراش الحافظ البارع الناقد»… فهذا ابن خراش، وقد قال عبدان: «قلت لابن خراش: حديث لا نورّث ما تركنا صدقة؟ قال: باطل. قلت: من تتّهم به؟ قال: مالك بن أوس»(12).
والسادس: إنّ مما يؤكّد بطلان هذا الحديث، فعل عمر وعثمان وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم من أمراء المسلمين عندهم، فإنّهم أعادوا فدكاً إلى أبناء الزهراء، وعملهم مبطل لعمل أبي بكر وقوله.
(1) منهاج السنة 4/194.
(2) منهاج السنة 4/234.
(3) منهاج السنة 4/230.
(4) منهاج السنة 4/234.
(5) منهاج السنة 5/522ـ523.
(6) منهاج السنة 4/360.
(7) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ـ سورة الإسراء، الآية 26 ـ 4/320.
(8) صحيح البخاري ـ كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، الحديث 704ـ3/252، صحيح مسلم ـ كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» الحديث 1759 ـ 3/1380.
(9) تاريخ الخلفاء ـ الخليفة الأول، فصل فيما وقع في خلافته: 73.
(10) الصواعق المحرقة ـ الباب الأول الفصل الخامس: 38.
(11) شرح مختصر الاصول، المحصول في علم الاصول، كشف الاسرار في شرح الاُصول للبزدوي، مسلّم الثبوت في علم الاصول. وغير هذه الكتب.
(12) راجع: تذكرة الحفاظ الترجمة 705 ابن خراش 2/685. ميزان الاعتدال ـ حرف العين، الترجمة 5009، عبد الرحمن بن يوسف بن خراش الحافظ 2/600. لسان الميزان الترجمة 5131 عبد الرحمن بن يوسف بن خراش الحافظ 4/322. طبقات الحفاظ ـ الترجمة 681، ابن خراش: 301.