وقال محمّد بن زاهد بن الحسن الكوثري:
«… والحاصل أن التفويض مع التنزيه مذهب جمهور السلف لانتفاء الضرورة في عهدهم. والتأويل مع التنزيه مذهب جمهور الخلف حيث عن لهم ضرورة التأويل لكثرة الساعين في الإضلال في زمنهم. وليس بين الفريقين خلاف حقيقي لأن كليهما منزه. ومن أهل العلم من توسّط بين هؤلاء وهؤلاء كما أشرت إليه.
وأما المشبّهة فتراهم يقولون: نحن لا نؤول بل نحمل آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها. وهم في قولهم هذا غير منتبهين إلى أن استعمال اللفظ في الله سبحانه بالمعنى المراد عند استعماله في الخلق تشبيه صريح، وحمله على معنى سواه تأويل.
على أن الأخبار المحتج بها في الصفات إنما هي الصحاح المشاهير دون الوحدان والمفاريد والمناكير والمنقطعات والضعاف والموضوعات، مع أنهم يسوقون جميعها في مساق واحد، في كتب يسمونها التوحيد أو الصفات أو السنّة أو العلو أو نحوها.
ومن الأدلة القاطعة على ردّ مزاعم الحشوية في دعوى التمسك بالظاهر في اعتقاد الجلوس على العرش خاصة قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) وقوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)وقوله تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) وقوله تعالى: (واللّهُ بِكُلِّ شَيْء مُّحِيط) وقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)… إلى غير ذلك مما لا يحصى في الكتاب والسنّة المشهورة، مما ينافي الجلوس على العرش. وأهل السنّة يرونها أدلّة على تنزيه الله سبحانه عن المكان كما هو الحق.
فلا يبقى للحشوية أن يعملوا شيئاً إزاء أمثال تلك النصوص غير محاولة تأويلها مجازفة، أو العدول عن القول بالإستقرار المكاني. فأين التمسك بالظاهر في هاتين الحالتين؟ وهكذا سائر مزاعمهم.
على أن من عرف أقسام النظم باعتبار الوضوح والخفاء، وأقرّ بكون آيات الصّفات وأخبارها من المتشابه، كيف يتصوّر في هذا المقام ظاهراً يحمل المتشابه عليه، وإنما حقّه أن يحمل المتشابه في الصفات على محكم قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) بالتأويل الإجمالي.
ومن الحشوية من يزعم أن الآية المذكورة متشابهة ليتنكب الحل المذكور، بل منهم من بلغ الكفر إلى حدّ أن يقول: له ساق كساقي هذه، والمراد بالآية نفي المماثلة في الإلهية لا في كلّ أمر، كما تجد ذلك في كتب العبدري الظاهري في تاريخ ابن عساكر، وهذا كفر بواح. فتلاوة المشبه الآية المذكورة لا تفيد بمجردها التنزيه بالمعنى الذي يفهمه أهل الحق من الآية، فلا تغفل ولا تنخدع.
فمن المضحك المبكي تمسّكهم مرّةً في نفي العلم بالتأويل بقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) باعتبار الوقف على الاسم الكريم مع دعوى الحمل على الظاهر، وزعمهم اخرى أن التأويل بمعنى التفسير مع الوقف على (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مدّعين أنهم يعلمون تأويل المتشابه باعتبار أنهم من الراسخين في العلم، ومجترئين على النطق بكلمات في المتشابهات لا ينطق بمثلها من يخاف مقام ربّه.
وأما أهل الحق، فلا يدّعون معرفة جميع التأويل، بل يفوّضون علمه إلى الله ويردّون المتشابه إلى المحكم جملة وتفصيلا، ولا يحملون لفظ التأويل في تلك الحالة على خلاف معناه المعلوم من السياق…
بل يحمل بعض المحققين منهم النفي في الآية ـ بالوقف على لفظة الله كما هو المؤيد دراية ورواية ـ على سلب العموم دون عموم السلب، بالنظر إلى أن التأويل مصدر مضاف فيكون من ألفاظ العموم، فبانصباب النفي على العموم يكون المعنى:ما يعلم غيره تعالى بنفسه جميع التأويل. وهذا لا يمانع معرفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم جميع التأويل بتعليم الله سبحانه وحياً، ولا يمنع أهل العلم من الأمة من السعي في معرفة ما دون الجميع من التأويل.
وبهذا تعرف قيمة ما أطال به ابن تيمية الكلام في تفسير سورة الإخلاص، متظاهراً بالمسايرة مع الخلف مخادعة منه في صدد توهين الوقف على لفظة «الله» مع إخراج التأويل على معناه، ليتمكن من حمل المتشابهات على معتقد الحشوية.
فإذا تدبرت كلامه الطويل هناك تحت نور هذا البيان تجده يضمحل ويذهب هباءً.
ومن الطريف تأويل التأويل ممن ينكر التأويل ويدّعي الأخذ بالظاهر…»(1).
وقد سبقهم إلى ذلك جماعة من كبار العلماء:
(1) الرد على نونيّة ابن القيمّ: 133.