والرابع: إثبات أن ابن تيميّة إنما حاول إحياء هذه المذاهب. قال الشيخ محمّد أبو زهرة:
«… وعلى ذلك يقرّر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كلّ ما جاء في القرآن من فوقية وتحتية واستواء على العرش، ووجه ويد ومحبة وبغض، وما جاء في السنّة من ذلك أيضاً من غير تأويل وبالظاهر الحرفي. فهل هذا هو مذهب السلف حقاً؟; ونقول في الإجابة عن ذلك: لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا، وادّعوا أن ذلك مذهب السلف. وناقشهم العلماء في ذلك الوقت، وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبيه والجسمية لا محالة. وكيف لا يؤدّي إليهما والإشارة الحسيّة إليه جائزة. ولذا تصدّى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي، ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف، ونفى أيضاً أن يكون ذلك رأي الإمام أحمد.
وقال ابن الجوزي في ذلك: رأيت من أصحابنا من تكلّم في الأصول بما لا يصلح.. فصنّفوا كتباً شانوا بها المذهب.
ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وفماً ولهوات وأضراساً وأضواء لوجهه ويدين وأصبعين وكفّاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين. وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس.
وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسمّوها بالصفات تسمية مبتدعة. ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من صفات الحدث، ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات.
ثم لمّا أثبتوا أنها صفات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة، ولا مجىء وإتيان على معانى برّ ولطف، ولا ساق على شدّة. بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشىء إنما يحمل على حقيقته إن أمكن، فإن صرف صارفٌ حُمِلَ على المجاز.
ثم يتحرّجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السنّة، وكلامهم صريح في التشبيه، وقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع وقلت يا أصحابنا، أنتم أصحاب نقل واتّباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه الله يقول ـ وهو تحت السياط ـ: كيف أقول ما لم يُقَل، فإيّاكم أن تبتدعوا من مذهبه ما ليس منه.
ثم قلتم في الأحاديث تحمل على ظاهرها، فظاهر القدم الجارحة، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات. وينبغي ألاّ يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل. فإنا به عرفنا الله تعالى وحكمنا له بالقِدَم. فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت ما أنكر أحد عليكم، وإنّما حملكم إيّاه على الظاهر قبيح. فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل السلفي ما ليس فيه.
وقد استفاض ابن الجوزي في بيان بطلان ما اعتمدوا عليه من أقوال. ولقد قال ذلك القول الذي ينقده ابن الجوزي القاضي أبو يعلى الفقيه الحنبلي المشهور المتوفى سنة 457، وكان مثار نقد شديد وجّه إليه، حتى لقد قال فيه بعض فقهاء الحنابلة: لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحار. وقال مثل ذلك القول من الحنابلة ابن الزاغوني المتوفى سنة 527. وقال فيه بعض الحنابلة أيضاً: إن في قوله من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه.
وهكذا استنكر الحنابلة ذلك الإتجاه، عندما شاع في القرن الرابع والقرن الخامس، ولذلك استتر هذا المذهب حتى أعلنه ابن تيمية في جرأة وقوة…»(1).
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية ـ الجزء الأول في السياسة والعقائد، السلفية والأشاعرة 217 ـ 219.