أقول:
قال الشهرستاني: «إعلم أن جماعةً كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزليّة: من العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام،والجلال، والإكرام، والجود، والإنعام، والعزّة، والعظمة، ولا يفرّقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً. وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل: اليدين، والوجه، ولا يؤوّلون ذلك، إلاّ أنّهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسمّيها صفات خبرية.
ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون، سميّ السلف: صفاتيّة، والمعتزلة: معطّلة.
فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حدّ التشبيه بصفات المحدثات، واقتصر بعضهم على صفات دلّت الأفعال عليها، وما ورد به الخبر، فافترقوا فيه فرقتين، فمنهم: من أوّله على وجه يحتمل اللفظ ذلك، ومنهم: من توقّف في التأويل وقال: عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها، وقطعنا بذلك، إلاّ أنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)ومثل قوله: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)ومثل قوله: (وَجَاء رَبُّكَ) إلى غير ذلك، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها، بل التكليف قد ورد بالإعتقاد بأنّه لا شريك له، وليس كمثله شيء، وذلك قد أثبتناه يقيناً.
ثم إنّ جماعةً من المتأخّرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا: لابدّ من إجرائها على ظاهرها، والقول بتفسيرها كما وردت، من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر، فوقعوا في التشبيه الصرف، وذلك على خلاف ما اعتقده السلف.
ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود، لا في كلّهم، بل في القرائين منهم، إذ وجدوا في التوراة ألفاظاً كثيرة تدل على ذلك…
حتى انتهى الزمان إلى: عبد الله بن سعيد الكلابي، وأبي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي، وهؤلاء كانوا من جملة السلف، إلاّ أنهم باشروا علم الكلام، وأيّدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين اُصولية، وصنّف بعضهم، ودرّس بعض، حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين اُستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصّلاح والأصلح فتخاصما، وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيّد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهباً لأهل السنّة والجماعة، وانتقلت سمة الصفاتيّة إلى الأشعريّة.
ولمّا كانت «المشبّهة» و«الكرامية» من مثبتي الصفات، عددناهم فرقتين من جملة الصفاتية»(1).
وقال تحت عنوان «المشبّهة»:
«إعلم أن السلف من أصحاب الحديث لمّا رأوا توغّل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنّة التي عهدوها من الأئمّة الراشدين، ونصرهم جماعة من أمراء بني أمية على قولهم بالقدر(2) وجماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن… تحيّروا في تقرير مذهب أهل السنّة والجماعة في متشابهات آيات الكتاب الحكيم وأخبار النبي الأمين صلّى الله عليه وسلّم.
فأمّا أحمد بن حنبل وداود بن علي الإصفهاني وجماعة من أئمة السلف، فجروا على منهاج السلف المتقدّمين عليهم من أصحاب الحديث، مثل مالك بن أنس ومقاتل بن سليمان، وسلكوا طريق السلامة فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنّة، ولا نتعرّض للتأويل، بعد أن نعلم قطعاً أن الله عزّوجلّ لا يشبه شيئاً من المخلوقات، وأنّ كلّ ما تمثّل في الوهم فإنه خالقه ومقدّره، وكانوا يحترزون عن التشبيه إلى غاية أن قالوا: من حرّك يده عند قراءة قوله تعالى: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) أو أشار بأصبعيه عند روايته: قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن، وجب قطع يده وقلع أصبعيه. وقالوا: إنما توقّفنا في تفسير الآيات وتأويلها لأمرين: أحدهما: المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) فنحن نحترز عن الزيغ. والثاني: إن التأويل أمر مظنون بالاتفاق والقول في صفات الباري بالظن غير جائز…
أما مشبّهة الحشوية:
فحكى الأشعري عن محمّد بن عيسى أنه حكى عن مضر، وكهمس، وأحمد الهجيمي: أنهم أجازوا على ربّهم: الملامسة والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة، إذا بلغوا في الرياضة والإجتهاد إلى حدّ الإخلاص والإتحاد المحض.
وحكى الكعبي عن بعضهم; إنه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا، وأن يزوروه ويزورهم.
وحكى عن داود الجواربي أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك. وقال: إن معبوده جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء، من: يد ورجل ورأس ولسان وعينين واُذنين…
وحكى عنه أنه قال: هو أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك، وأن له وفرة سوداء، وله شعر قطط.
وأمّا ما ورد في التنزيل من: الإستواء، والوجه، واليدين، والجنب، والمجىء، والإتيان، والفوقية… وغير ذلك، فأجروها على ظاهرها، أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها… أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام.
وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه السّلام، وأكثرها مقتبسة من اليهود، فإن التشبيه فيهم طباع، حتى قالوا: إشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وأنّ العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد، وأنه ليفضل من كلّ جانب أربع أصابع…»(3).
وقال تحت عنوان الكرّامية: «أصحاب أبي عبدالله محمّد بن كرّام… نصَّ أبو عبدالله على أن معبوده على العرش استقراراً، وعلى أنه بجهة فوق ذاتاً، وأطلق عليه اسم الجوهر، فقال في كتابه المسمى عذاب القبر: إنّه أحدي الذات، أحدي الجوهر، وأنّه مماس للعرش من الصفحة العليا. وجوّز: الإنتقال والتحوّل والنزول. ومنهم من قال: إنه على بعض أجزاء العرش. وقال بعضهم: إمتلأ العرش به. وصار المتأخّرون منهم: إلى أنه تعالى بجهة فوق، وأنه محاذ للعرش… وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه… ومن مذهبهم جميعاً: جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى: وزعموا أن في ذاته سبحانه حوادث كثيرة… وقد اجتهد ابن الهيصم في إرمام مقالة أبي عبدالله في كل مسألة، حتى ردّها من المحال الفاحش…»(4).
أقول:
قد أوردنا نصوص عبارات الشهرستاني، المتوفى سنة: 548، أي قبل وفاة العلاّمة بقرنين تقريباً ـ لأسباب:
الأول: إثبات أنّه لم يقل بمثل هذه المقالات أحد من الشيعة الإماميّة الاثني عشرية.
والثاني: إثبات أنّ العلاّمة لم ينسب إلى أحد ما لم يقله.
والثالث: إن هذه العقائد هي في الأصل عقائد اليهود، وسيأتي التصريح بذلك في بعض الكلمات، حتى من ابن تيمية.
(1) الملل والنحل 1/84ـ85، الباب الثالث: الصفاتية.
(2) انظر: طبقات ابن سعد 7/167.
(3) الملل والنحل 1/95ـ97.
(4) الملل والنحل 1/99ـ102.