وقال الشيخ الزرقاني: «إرشاد وتحذير: لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق، وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله، ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه وتحتمل الكفر والإيمان، حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات. ومن الموسف أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا. ومن المحزن أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح ويخيّلون إلى الناس إلى أنهم سلفيّون.
من ذلك قولهم: إن الله تعالى يشار إليه بالإشارة الحسيّة، وله من الجهات الست جهة الفوق. ويقولون: إنه استوى على عرشه بذاته إستواء حقيقيّاً، بمعنى أنه استقر فوقه استقراراً حقيقياً، غير أنهم يعودون فيقولون ليس كاستقرارنا وليس على ما نعرف. وهكذا يتناولون أمثال هذه الآية. وليس لهم مستند فيما نعلم إلاّ التشبّث بالظواهر. ولقد تجلى لك مذهب السلف والخلف فلا نطيل بإعادته.
ولقد علمت أن حمل المتشابهات في الصفات على ظواهرها مع القول بأنها باقية على حقيقتها ليس رأياً لأحد من المسلمين، وإنما هو رأي لبعض أصحاب الأديان الأخرى كاليهود والنصارى، وأهل النحل الضالة كالمشبّهة والمجسّمة.
أمّا نحن ـ معاشر المسلمين ـ فالعمدة عندنا في أمور العقائد هي الأدلّة القطعيّة التي توافرت على أنه تعالى: ليس جسماً، ولا متحيزاً، ولا متجزئاً، ولا متركباً، ولا محتاجاً لأحد، ولا إلى مكان، ولا إلى زمان، ولا نحو ذلك.
ولقد جاء القرآن بهذا في محكماته إذ يقول (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)… ويقول (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)ويقول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وغير هذا كثير في الكتاب والسنّة.
فكلّ ما جاء مخالفاً بظاهره لتلك القطعيات والمحكمات، فهو من المتشابهات التي لا يجوز إتباعها، كما تبين لك فيما سلف.
ثم إنّ هؤلاء المتمسحين في السلف متناقضون، لأنهم يثبتون تلك المتشابهات على حقائقها، ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث، كالجسمية والتجزء والحركة والإنتقال، لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم، مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم.
فقولهم في مسألة الإستواء الآنفة: إن الإستواء باق على حقيقته، يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيّز. وقولهم بعد ذلك: ليس هذا الإستواء على ما نعرف، يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسميّة والتحيّز. فكأنّهم يقولون: إنه مستو غير مستو، ومستقر فوق العرش غير مستقر، أو متحيز غير متحيز، وجسم غير جسم. أو أن الإستواء على العرش ليس هو الإستواء على العرش. والإستقرار فوقه ليس هو الإستقرار فوقه. إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت.
فإن أرادوا بقولهم: الاستواء على حقيقته: أنه على حقيقته التي يعلمها الله ولا نعلمها نحن، فقد اتّفقنا، ولكن بقي أن تعبيرهم هذا موهم… لا يجوز أن يصدر من مؤمن، خصوصاً في مقام التعليم والإرشاد وفي موقف النقاش والحجاج.
لأن القول بأن اللفظ حقيقة أو مجاز لا ينظر فيه إلى علم الله وما هو عنده، ولكن ينظر فيه إلى المعنى الذي وضع له اللفظ في عرف اللّغة. والإستواء في اللغة العربية يدلّ على ما هو مستحيل على الله في ظاهره، فلابدّ إذن من صرفه عن هذا الظاهر. واللفظ إذا صرف عما وضع له واستعمل في غير ما وضع له، خرج عن الحقيقة إلى المجاز لا محالة، ما دامت هناك قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي…
ثمّ إن كلامهم بهذه الصورة فيه تلبيس على العامة وفتنة لهم فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه، وفي ذلك ما فيه من الإضلال وتمزيق وحدة الأمة، الأمر الذي نهانا القرآن عنه والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بصبغ أو بابن صبيغ، وجعل مالكاً يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بالذي سأله عن الإستواء، وقد مرّ بك هذا وذاك.
لو أنصف هؤلاء لسكتوا عن الآيات والأخبار المتشابهة، واكتفوا بتنزيه الله تعالى عمّا توهمه ظواهرها من الحدوث ولوازمه، ثم فوّضوا الأمر في تعيين معانيها إلى الله وحده، وبذلك يكونون سلفيين حقاً…»(1).
(1) مناهل العرفان في علوم القرآن ـ المبحث الخامس عشر في محكم القرآن ومتشابهه ـ 2/544ـ545.