وفي مناهل العرفان للزرقاني:
«علماؤنا ـ أجزل الله مثوبتهم ـ قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلق بهذه المتشابهات ثم اختلفوا فيما وراءها. فأوّل ما اتفقوا عليه: صرفها عن ظواهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعاً، كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة، وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته؟ ثانيه: أنه إذا توقّف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويرد طعن الطاعنين. ثالثه: أن المتشابه إن كان تأويل واحد يفهم منه فهماً قريباً وجب القول به إجماعاً، وذلك كقوله سبحانه (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)(1) فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعاً، وليس لها بعد ذلك إلاّ تأويل واحد هو الكينونة معهم بالإحاطة علماً وسمعاً وبصراً وقدرة وإرادة.
وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك، فقد وقع على ثلاثة مذاهب المذهب الأوّل: مذهب السلف، ويسمى مذهب المفوضة ـ بكسر الواو وتشديدها ـ وهو تفويض معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة»(2).
وقد بيّن بعد ذلك الدليل على مذهب السلف، كما بيّن المذهب الثاني وهو مذهب الخلف، أمّا المذهب الثالث فقال:
«المذهب الثالث: مذهب المتوسطين، وقد نقل السيوطي هذا المذهب فقال:وتوسط ابن دقيق العيد فقال: إذا كان التأويل قريباً من لسان العرب لم ينكر أو بعيداً، توقفنا عنه وآمنّا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً مفهوماً من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف، كما في قوله تعالى: (يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ)(3) فنحمله على حق الله وما يجب له…
تطبيق وتمثيل: ولنطبق هذه المذاهب على قوله سبحانه (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)… فنقول: يتفق الجميع من سلف وخلف على أن ظاهر الإستواء على العرش ـ وهو الجلوس عليه مع التمكن والتحيّز ـ مستحيل، لأن الأدلة القاطعة تنزّه الله عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلى شيء منه، سواء كان مكاناً يحلّ فيه أم غيره. وكذلك اتفق السلف والخلف على أن هذا الظاهر غير مراد لله قطعاً، لأنه تعالى نفى عن نفسه المماثلة لخلقه وأثبت لنفسه الغنى عنهم فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(4) وقال (لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(5) فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضاً. ثم اختلف السلف والخلف بعدما تقدم، فرأى السلفيون أن يفوّضوا تعيين معنى الإستواء إلى الله، هو أعلم بما نسبه إلى نفسه وأعلم بما يليق به، ولا دليل عندهم على هذا التعيين».
ثم ينقل مذهب الأشاعرة والمتأخّرين من الخلف… ثم يقول:
«وقل مثل ذلك في نحو (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)(يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ)(وَجَاء رَبُّكَ)(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)… فالسلف: يفوّضون في معانيها تفويضاً مطلقاً بعد تنزيه الله عن ظواهرها المستحيلة. والأشاعرة: يفسّرونها بصفات سمعية زائدة على الصفات التي تعلمها، ولكنهم يفوّضون الأمر في تعيين هذه الصفات إلى الله. فهم مؤوّلون من وجه مفوّضون من وجه. والمتأخّرون: يفسّرون الوجه بالذات ولفظ (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) بتربية موسى ملحوظاً بعناية الله وجميل رعايته، ولفظ اليد بالقدرة ولفظ اليمين بالقوة. والفوقية بالعلو المعنوي دون الحسي، والمجىء في قوله (وَجَاء رَبُّكَ) بمجىء أمره، والعندية في قوله (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) بالإحاطة والتمكن أو بمثل ذلك…»(6).
(1) سورة الحديد: 4.
(2) مناهل العرفان في علوم القرآن ـ الرأي الرشيد في متشابه الصفات: 540ـ541.
(3) سورة الزمر: 56.
(4) سورة الشورى: 11.
(5) سورة الحديد: 24.
(6) مناهل العرفان في علوم القرآن ـ الرأي الرشيد في متشابه الصفات، تطبيق وتمثيل: 542ـ543.