فأمّا الحديث: هذا فاروق امّتي
فلنذكر أولا الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنقول:
أوّلا: هذا الحديث رواه جمع من الصحابة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كسلمان وابن عبّاس وأبي ذر وحذيفة وأبي ليلى… وغيرهم. وقد قاله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بحسب هذه الروايات ـ مرّتين، مرّةً في سياق أوصاف أميرالمؤمنين عليه السّلام بقوله: «إن هذا أوّل من آمن بي، وأوّل من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الاُمة يفرق بين الحق والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالمين» واُخرى في مقام بيان الإختلاف من بعده والأمر بلزوم أميرالمؤمنين، بقوله: «سيكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فإنّه الفاروق بين الحق والباطل».
وثانياً: من رواته من أئمة الحديث وحفّاظه: الطبراني، والبزّار، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن عبد البر، وابن عساكر، وابن الأثير، وابن حجر، والمحبّ الطبري، والمنّاوي، والمتقي الهندي… وغيرهم.
وثالثاً: هو في الكتب المعتمدة أمثال: مسند البزار، ومعجم الطبراني، وتاريخ دمشق، والاستيعاب واسد الغابة والإصابة بترجمة أميرالمؤمنين، ومجمع الزوائد وكنز العمال في فضائله، وفي فيض القدير بشرح الجامع الصغير، والرياض النضرة في مناقب العشرة، وذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى.
ورابعاً: من أسانيد هذا الحديث «في الكتب المعتمدة» ما أخرجه الطبراني في الكبير بقوله: «حدّثنا علي بن إسحاق الوزير الإصبهاني، حدّثنا إسماعيل بن موسى السدّي، ثنا عمر بن سعيد، عن فضيل بن مرزوق، عن أبي سخيلة، عن أبي ذر وعن سلمان قالا:
أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد علي ـ رضي الله عنه ـ فقال: إن هذا أوّل من آمن بي، وهو أوّل من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الامّة يفرق بين الحق والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالم»(1).
ورواه المناوي قال: «ورواه الطبراني والبزّار عن أبي ذر وسلمان مطوّلا قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد علي…»(2) ولم يتكلّم عليه بشيء أصلا، وإن تكلّم في غيره، وكذا المتقي الهندي(3).
ولم يورده ابن الجوزي ـ بهذا السند ـ لافي (الموضوعات) ولا (العلل) وإن أورده بأسانيد اُخرى في الأول كما ستعرف.
نعم قال الهيثمي بعد أن رواه: «رواه الطبراني، والبزار عن أبي ذر وحده وقال فيه: أنت أوّل من آمن بي. وقال فيه: والمال يعسوب الكفار. وفيه: عمرو ابن سعيد المصري، وهو ضعيف»(4).
أقول:
الذي في سند الطبراني في الكبير: «عمر بن سعيد» وكذا جاء ـ بإضافة «البصري» ـ في أسماء من يروي عنهم «إسماعيل بن موسى» الراوي عنه هذا الخبر، عند المزي(5)، لكنّه بترجمة «فضيل بن مرزوق» في أسماء الرواة عنه ذكر «عمر بن سعد»(6).
فهو ـ على كلّ حال ـ ليس «عمرو بن سعيد». وليس «المصري» بل «البصري».
ثم راجعنا (الميزان) و(اللسان) فوجدنا: «عمر بن سعد، يروي عن عمر ابن عبدالله الثقفي، عن أبيه، عن جدّه، حدّث عنه: إسماعيل بن موسى، عداده في البصريين. قال البخاري: لا يصحّ حديثه»(7).
فالصحيح: إنّه «عمر بن سعد البصري» فإن كان الهيثمي قد التبس عليه الأمر واشتبه الرجل برجل آخر فهو، وإن كان الغلط من النسخة، فإنّي لم أجد الرجل في كتب الضعفاء للبخاري والنّسائي والدارقطني، غير أنّ الذهبي وابن حجر نقلا عن البخاري فيه: «لا يصحُّ حديثه».
فإذا كان ابن الجوزي لا يُدرج الحديث بهذا السند في (الموضوعات) ولا (الواهية)، والرجل لم يُدرج في الكتب المعدّة للضعفاء والمتروكين، من البخاري والنسائي والدارقطني، بل لا كلام فيه لأحد وإلاّ لذكر في الميزان ولسانه، ولم يتكلّم غير واحد من المحدّثين على سند هذا الحديث مع روايتهم له، لم يكن قول البخاري «لا يصح حديثه» قدحاً في الرجل نفسه.
ومما يشهد بذلك: أن ابن أبي حاتم أورد الرّجل في كتابه (الجرح والتعديل) ـ الذي هو في الحقيقة تعقّبات لكتاب (التاريخ الكبير) للبخاري ـ فلم يذكر فيه طعناً وقدحاً من أحد، وهذه عبارته: «عمر بن سعد النصري(8). روى عن: عمر ابن عبدالله الثقفي، وليث بن أبي سليم. روى عنه: أبو سلمة موسى بن إسماعيل المنقري، وإسماعيل بن موسى قريب السدّي، سمعت أبي يقول ذلك»(9).
هذا، ولا يقال إنّه إن لم يقدح فيه فلم يعدّله، لأنه ذكر عن أبيه وعن أبي زرعة التصريح بأنَّ «رواية الثقة عن غير المطعون عليه تقوية له» وعقد لهذا باباً(10).
وتلخص: صحّة هذا الحديث بهذا السّند.
* ومن أسانيد هذا الحديث «في الكتب المعتمدة» ما أخرجه البزّار قال: «حدّثنا عبّاد بن يعقوب، حدّثنا ابن هاشم، حدّثنا محمّد بن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جدّه أبي رافع، عن أبي ذر، عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لعلي بن أبي طالب: أنت أوّل…».
أقول:
رجاله رجال الصّحاح، غير أنّهم شيعة!
فأمّا «عباد بن يعقوب» فقد أخرج عنه البخاري في صحيحه، وكذا غيره من أرباب الصّحاح، قال ابن حجر: «صدوق رافضي»(11).
وأمّا: «ابن هاشم» فهو: علي بن هاشم بن البريد، وهو من رجال مسلم والأربعة، والبخاري في الأدب المفرد، قال ابن حجر: «صدوق يتشيّع»(12).
وأمّا «محمّد بن عبيدالله» فهو من رجال الترمذي وابن ماجة كما علّم الذهبي(13) وذكره ابن حبّان في كتاب الثقات(14)، وقد تكلَّم فيه غير واحد منهم لأجل أحاديثه، وبذلك صرّح ابن عدي حيث قال: «وهو في عداد شيعة الكوفة، ويروي من الفضائل أشياء لا يتابع عليها»(15).
* ومن أسانيد هذا الحديث «في الكتب المعتمدة» ما أخرجه البيهقي قال: «أنبأنا أبو عبدالله محمّد بن عبدالله الحاكم قال: سمعت محمّد بن علي الإسفرايني، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن إسماعيل قال: حدّثنا مذكور بن سليمان قال: حدّثنا أبو الصّلت الهروي قال: حدّثنا علي بن هاشم قال: حدّثنا محمّد بن عبيدالله بن أبي رافع، مثله سواء، إلاّ أنه قال: والمال يعسوب الظلمة».
أقول: وهذا كسابقه. إذ لم يتكلّم إلاّ في «أبي الصلت» و«علي بن هاشم» و«محمّد بن عبيدالله».
أمّا «علي بن هاشم» و«محمّد بن عبيدالله» فقد عرفتهما.
وأمّا «أبو الصّلت الهروي» فقد تعرّضوا لترجمته بمناسبة حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها» ولأجل هذا الحديث ونحوه تكلّم فيه بعضهم… قال ابن حجر: «صدوق، له مناكير، وكان يتشيّع»(16).
* ومن أسانيد هذا الحديث «في الكتب المعتمدة» ما أخرجه ابن عدي قال: «حدّثنا علي بن سعيد الرازي قال: حدّثنا عبدالله بن داهر بن يحيى الرازي قال: حدّثني أبي، عن الأعمش، عن عباية الأسدي، عن ابن عبّاس قال: ستكون فتنة، فإن أدركها أحد منكم فعليه بخصلتين: كتاب الله وعلي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ـ وهو آخذ بيد علي ـ: هذا أوّل من آمن بي…».
وما تكلّم في سنده إلاّ من ناحية «عبد الله بن داهر» وما تكلّم فيه إلاّ لتشيّعه، قال العقيلي: «رافضي خبيث» وقد أفصح ابن عدي كذلك عن السرّ حيث قال: «عامّة ما يرويه في فضائل علي وهو متّهم في ذلك»(17).
(1) المعجم الكبير ـ الحديث 6184، 6/269.
(2) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير، الحديث 5600ـ4/472.
(3) كنز العمال ـ فضائل علي رضي الله عنه، الحديث 32990ـ11/616.
(4) مجمع الزوائد ـ كتاب المناقب، باب إسلام علي رضي الله عنه ـ 9/102.
(5) تهذيب الكمال ـ الترجمة 491، إسماعيل بن موسى الفزاري 3/210.
(6) تهذيب الكمال ـ الترجمة 4769، فضيل بن مرزوق 23/306.
(7) ميزان الاعتدال ـ حرف العين الترجمة 6119، عمر بن سعد ـ 3/199. لسان الميزان ـ الترجمة 6121، عمر بن سعد ـ 5/190 ـ 191.
(8) كذا والصحيح: البصري.
(9) الجرح والتعديل ـ باب السين، الترجمة 594، عمر بن سعد النصري 6/112.
(10) الجرح والتعديل ـ باب ما ذكر من معرفة ابن عيينة بالعلم وكلامه في رواة العلم وناقليه 1/36.
(11) تقريب التهذيب ـ حرف العين، ذكر من اسمه عباد، الترجمة 3153 عباد بن يعقوب الرواجني: 234.
(12) تقريب التهذيب ـ حرف الميم، الترجمة 5730، محمّد بن إسماعيل بن رجاء الزبيدي: 404.
(13) ميزان الاعتدال ـ حرف الميم، الترجمة 7904، محمّد بن عبيدالله بن أبي رافع المدني: 3/634.
(14) تهذيب الكمال ـ الترجمة 5432، محمّد بن عبيدالله بن أبي رافع القرشى الهاشمي ـ 26/38.
(15) تهذيب الكمال ـ الترجمة 5432، محمّد بن عبيدالله بن أبي رافع القرشي الهاشمي ـ 26/38.
(16) تقريب التهذيب ـ حرف العين، الترجمة 4070، عبد السلام بن صالح بن سليمان: 296.
(17) ميزان الاعتدال ـ حرف العين، الترجمة 4295، عبد الله بن داهر بن يحيى 2/417.