خلق القرآن
وقال العلاّمة في بيان عقائد الإماميّة: «وأنّ أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره…».
وقال في عقائد الاشاعرة: «وذهبت الأشاعرة إلى أنّ الله أمرنا ونهانا في الأزل ولا مخلوق عنده…».
وفي هذه المسألة أيضاً بذل ابن تيميّة سعياً حثيثاً في المغالطة وتشويش ذهن القارىء، لكنّه بالتالي يصرّح بأنّه قال ما لا يعتقد، إنه نصّ بعد كلام له طويل:
«وبالجملة، فنحن ليس مقصودنا هنا نصر قول من يقول: القرآن قديم، فإنّ هذا القول أوّل من عرف أنه قاله في الإسلام أبو محمّد عبدالله بن سعيد بن كلاب، واتّبعه على ذلك طوائف، فصاروا حزبين: حزباً يقول: القديم هو معنى قائم بالذات، وحزباً يقول: هو حروف أو حروف وأصوات.
وقد صار إلى كلّ من القولين طوائف من المنتسبين إلى السنّة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وليس هذا القول ولا هذا القول قول أحد من الأئمة الأربعة، بل الأئمة الأربعة وسائر الأئمة متّفقون على أن كلام الله منزّل غير مخلوق…
لكن اشتهر النزاع فيها في المحنة المشهورة لما امتحن أئمّة الإسلام، وكان الذي ثبّته الله في المحنة وأقامه لنصر السنّة هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وكلامه وكلام غيره في ذلك موجود في كتب كثيرة، وإن كان طائفة من متأخّري أصحابه وافقوا ابن كلاب على قوله: إن القرآن قديم، فأئمّة أصحابه على نفي ذلك وأن كلامه قديم، بمعنى أنّه لم يزل متكلّماً بمشيئته وقدرته… وأحمد وغيره من السلف يقولون: إن الله تعالى يتكلّم بصوت، لكن لم يقل أحد منهم: إن ذلك الصوت المعيّن قديم»(1).
أقول:
أولا: إذا لم يكن ابن تيمية يقصد نصرة هذا القول فلماذا هذه التطويلات؟
وثانياً: إنه يُقرّ بأنّ القول المذكور هو لطوائف من أهل السنّة، فما ذكره العلاّمة حق، وكان عليه الإعتراف بذلك بصراحة.
وثالثاً: ظاهر كلامه هنا أنّ هذا القول بدعة، بل لقد نصّ على كونه بدعة في مكان آخر(2).
ورابعاً: لقد حاول التفريق بين قول القائلين: «كلام الله قديم» و «القرآن الكريم» وبين القول بأنّ «كلام الله غير مخلوق» و«القرآن غير مخلوق» بعد اعترافه بأنّ القائلين بقدم القرآن هم «بعض المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، ويقوله ابن سالم وأصحابه، وطائفة من أهل الكلام والحديث» لكنه يقول: «فليس في هؤلاء أحد من السّلف، وإن كان الشهرستاني ذكر في نهاية الإقدام أنّ هذا قول السلف والحنابلة»(3).
فإن كان صادقاً في نسبة ما ذكر إلى أحمد، فقد فهم هو وحده ما لم يفهمه أصحابه ولا أصحاب الشافعي ومالك وسائر العلماء والمحقّقين!
لكنّ أحداً لا يصدّقه فيما يقول ويفهم دونهم… وحينئذ، كيف يصدَّق قوله في معتقد أئمة أهل البيت وأتباعهم حين يقول ـ في الردّ على كلام العلاّمة ـ: «أكثر أئمة الشيعة يقولون: القرآن غير مخلوق، وهو الثابت عن أئمة أهل البيت»(4).
«وأمّا الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة… وقدماؤهم كانوا يقولون: القرآن غير مخلوق، كما يقوله أهل السنّة والحديث، وهذا القول هو المعروف عن أهل البيت، كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر ابن محمّد الصادق وغيرهم…
ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أُصولهم، فليس في أئمة أهل ـ البيت ـ مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمّد الصادق ـ من كان ينكر الرؤية أو يقول بخلق القرآن، أو ينكر القدر، أو يقول بالنص على علي، أو بعصمة الأئمة الاثني عشر، أو يسبّ أبا بكر وعمر.
والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة، وكانت ممّا يعتمد عليه أهل السنّة»(5).
أقول:
قد بحث علماؤنا في محلّه المسألة بالتفصيل، وأقاموا الأدلة القويمة من نفس القرآن الكريم على حدوثه ـ وكذلك بعض علماء أهل السنّة ـ كالآيات الكثيرة التي وصف فيها القرآن بـ «الوحي» و«الحديث» و«الحكاية» و«الكلمات» و«الكتاب» و«القصص» ونحو ذلك.
إنما المهمُّ نسبة القول بقدمه ـ كذباً ـ إلى أهل البيت، فإنّهم برآء من ذلك، وكتاب نهج البلاغة أصدق شاهد، فمن كلام أميرالمؤمنين المروي فيه في وصف القرآن: «جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجَّ لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلا وثيقاً عروته… وهدىً لمن اءتمّ به… وبرهاناً لمن تكلّم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به… وآيةً لمن توسّم، وجنةً لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى»(6).
ففي كلامه أوصاف عديدة تدل على حدوثه، لا سيّما قوله: «وحديثاً لمن روى» و«الحديث» ضد «القديم».
ومثل هذا عنه وعن غيره من أئمة أهل البيت كثير فلا نطيل.
(1) منهاج السنة 3/369ـ370.
(2) منهاج السنة 5/421.
(3) منهاج السنة 5/420.
(4) منهاج السنة 3/353.
(5) منهاج السنة 2/367ـ369.
(6) نهج البلاغة ـ الخطبة 196.