جوابه عن حديث «الأئمة إثنا عشر»!!
وعندما يطعن في إمامة الأئمة الاثني عشر، وفي علمهم ودينهم، ويفضّل عليهم غيرهم، أو يجعلهم كسائر الاُناس العاديّين من عوام المسلمين.. يواجه الحديث المخرّج عندهم في الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من أنّ الخلفاء بعده إثنا عشر… فإنّ هذا الحديث نصٌّ في أن الإمامة والخلافة بعده في عدد معيّن، فما هو جواب أهل السنّة الذين لم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين؟ وإذا لم يكن المراد الأئمة الإثنا عشر من أهل البيت فمن هم؟
لقد تحيّر ابن تيمية في هذا الموضع، كغيره من أئمّة مذهبه، السابقين عليه والمتأخّرين عنه… وإليك كلامه بعين عباراته:
قال العلاّمة رحمه الله: «ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معيّن».
فقال ابن تيمية: «فهذا حق، وذلك أنّ الله تعالى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) ولم يوقّتهم بعدد معيّن.
وكذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة ـ لم يوقّت ولاة الاُمور في عدد معيّن:
ففي الصحيحين عن أبي ذر قال: إنّ خليلي أوصاني أن أسمع واُطيع وإن كان عبداً حبشيّاً مجدّع الأطراف.
وفي صحيح مسلم عن اُم الحصين: إنها سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم بمنى أو بعرفات في حجة الوداع يقول: لو استعمل عليكم عبد أسود مجدّع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا.
وروى البخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأنّ رأسه زبيبة.
وفي الصحيحين عن جابر أيضاً قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش.
وفي الصحيحين عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فكتب إليّ: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم جمعة عشيّة رجم الأسلمي قال: لا يزال هذا الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافر هم تبع لكافرهم.
وعن جابر بن عبدالله قال قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: الناس تبع لقريش في الخير والشر.
وفي البخاري عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلاّ كبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين»(1).
أقول:
هذا كلّ ما أورده في هذا الفصل نقلته بنصّه… فماذا تفهم من هذا الكلام؟ يقول ـ في جواب قول العلامة: «ولم يجعلوا الائمة محصورين في عدد» ـ: «هذا حق» ثم يستدل ـ بزعمه ـ بأدلّة:
فاستدلّ: بظاهر الآية المباركة…
لكنّ هذه الآية دالّة على اشتراط العصمة في الائمة(2).
وبما دلّ على وجوب الإنقياد لكلّ من ولي اُمور المسلمين «وإن عبّداً حبشيّاً».
لكنّ هذه الأحاديث ـ وإن دلّت على عدم انحصار الإمامة في عدد معين ـ مردودة بالإجماع على ضرورة كون الإمام قرشيّاً، ففي (شرح المواقف): في شروط الإمام: «أن يكون قرشيّاً، إشترطه الأشاعرة والجبائيّان، ومنعه الخوارج وبعض المعتزلة. لنا: قوله عليه السلام: الأئمة من قريش. ثم إن الصحابة عملوا بمضمون هذا الحديث، فإن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ استدلّ به يوم السقيفة على الأنصار حين نازعوا في الإمامة بمحضر الصحابة فقبلوه، وأجمعوا عليه، فصار دليلا قاطعاً يفيد اليقين باشتراط القرشيّة. إحتجّوا ـ أي المانعون من اشتراطها ـ بقوله عليه السلام: السّمع والطّاعة ولو عبداً حبشيّاً، فإنه يدل على أن الإمام قد لا يكون قرشيّاً. قلنا: ذلك الحديث فيمن أمّره الإمام، أي جعله أميراً على سرية وغيرها كناحية، ويجب حمله على هذا دفعاً للتعارض بينه وبين الإجماع، أو نقول: هو مبالغة على سبيل الفرض، ويدل عليه أنه لا يجوز كون الإمام عبداً إجماعاً»(3).
وقال التفتازاني: «واتّفقت الاُمة على اشتراط كونه قرشيّاً…»(4).
وكذا قال علماء الحديث بشرحه. فراجع(5).
إذن، فهذه الأخبار خارجة عن البحث.
ثم استدلّ بأحاديث في أنّ الإمامة في قريش.
وهذه الأحاديث لا تنافي قول الإمامية باعتبار عدد معيّن، ولا تدلُّ على قول غيرهم بعدم جعل الإمامة في عدد معيّن.
ثم استدلّ بأحاديث الأئمة إثنا عشر.
وهذه تدلّ على قول الإمامية، وعلى بطلان قول غيرهم.
فأين الدليل على مدّعى ابن تيميّة؟
بل بالعكس… فإنّه دلّل لقول العلاّمة ـ أي لمذهب الإمامية ـ لأنّ حاصل الأدلّة التي ذكرها اعتبار العصمة في الأئمة، وأنهم من قريش، وأنهم اثنا عشر، وهذا ما عليه الإمامية الاثنا عشرية.
* وكما أشرنا سابقاً… فإنّك إذا ما رجعت إلى كتب القوم ـ في الحديث والكلام والاُصول ـ وجدتهم يضطربون أشدّ الإضطراب في معنى حديث «الأئمة الاثنا عشر»، فيذكرون وجوهاً كثيرة متضاربةً، ثم يعترفون بالعجز عن فهم
معناه، يقول ابن العربي المالكي: «ولم أعلم للحديث معنىً»(6) وعن ابن البطّال عن المهلّب: «لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث. يعني بشيء معيّن»(7).
وعن ابن الجوزي: «قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث، وتطلّبت مظانّه، وسألت عنه، فلم أقع على المقصود»(8).
وهكذا… كان حال ابن تيميّة… وهذا كلامه في موضع آخر:
«وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش. ولفظ البخاري: اثني عشر أميراً، وفي لفظ: لا يزال أمر الناس ماضياً ولهم اثنا عشر رجلا. وفي لفظ: لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش.
وهكذا كان، فكان الخلفاء: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ثم تولّى من اجتمع الناس عليه وصار له عزّ ومنعة: معاوية، وابنه يزيد، ثم عبد الملك وأولاده الأربعة، وبينهم عمر بن عبد العزيز.
وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هو باق إلى الآن.
فإنّ بني اُميّة تولّوا على جميع أرض الإسلام، وكانت الدولة في زمنهم عزيزة… وأعظم ما نقمه الناس على بني اُميّة شيئان: أحدهما: تكلّمهم في علي. والثاني: تأخير الصّلاة عن وقتها…
ثمّ كان من نعم الله سبحانه ورحمته بالإسلام: أنّ الدولة لمّا انتقلت إلى بني
هاشم صارت في بني العبّاس.. وإلاّ، فلو تولّى ـ والعياذ بالله ـ رافضي يسبّ الخلفاء والسّابقين الأوّلين لقلب الإسلام.
ولكن دخل في غمار الدولة من كانوا لا يرضون باطنه، ومن كان لا يمكنهم دفعه، كما لم يمكن عليّاً قمع الاُمراء الذين هم أكابر عسكره، كالأشعث بن قيس، والأشتر النخعي، وهاشم المرقال، وأمثالهم.
… وهؤلاء الإثنا عشر خليفة هم المذكورون في التوراة، حيث قال في بشارته بإسماعيل: وسيلد اثني عشر عظيماً.
ومن ظنّ أن هؤلاء الاثني عشر هم الذين تعتقد الرافضة إمامتهم، فهو في غاية الجهل، فإن هؤلاء ليس فيهم من كان له سيف إلاّ علي بن أبي طالب، ومع هذا فلم يتمكّن في خلافته من غزو الكفّار، ولا فتح مدينة، ولا قتل كافراً، بل كان المسلمون قد اشتغل بعضهم بقتال بعض، حتى طمع فيهم الكفّار بالشرق والشّام، من المشركين وأهل الكتاب، حتى يقال: إنهم أخذوا بعض بلاد المسلمين، وإنّ بعض الكفّار كان يحمل إليه كلام حتى يكفّ عن المسلمين.
فأيّ عزٍّ للإسلام في هذا، والسيف يعمل في المسلمين، وعدوّهم قد طمع فيهم ونال منهم؟
وأما سائر الأئمّة غير علي، فلم يكن لأحد منهم سيف، لا سيّما المنتظر… وأيضاً، فالإسلام عند الإمامية هو ما هم عليه، وهم أذلّ فرق الاُمّة، فليس في أهل الأهواء أذلّ من الرافضة، ولا أكتم لقوله منهم، ولا أكثر استعمالا للتقيّة منهم، وهم ـ على زعمهم ـ شيعة الاثني عشر، وهم في غاية الذلّ، فأيّ عز للإسلام بهؤلاء الاثني عشر على زعمهم؟
وكثير من اليهود إذا أسلم يتشيّع، لأنه رأى في التوراة ذكر الاثني عشر، فظنَّ أنّ هؤلاء هم أولئك، وليس الأمر كذلك.
بل الاثنا عشر هم الذين ولّوا على الامّة من قريش ولايةً عامة، فكان الإسلام في زمنهم عزيزاً، وهذا معروف.
وقد تأوّل ابن هبيرة الحديث على أنّ المراد: إن قوانين المملكة باثني عشر مثل الوزير والقاضي ونحو ذلك. وهذا ليس بشىء. بل الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تكلّف.
وآخرون قالوا فيه مقالةً ضعيفة، كأبي الفرج ابن الجوزي وغيره.
ومنهم من قال: لا أفهم معناه، كأبي بكر بن العربي.
وأما مروان وابن الزبير فلم يكن لواحد منهما ولاية عامة، بل كان زمنه زمن فتنة، لم يحصل فيها من عزّ الإسلام وجهاد أعدائه ما يتناوله الحديث.
ولهذا جعل طائفة من الناس خلافة علي من هذا الباب وقالوا: لم تثبت بنص ولا إجماع… والكلام على هذه المسألة لبسطه موضع آخر…»(9).
أقول:
وفي هذا الكلام ـ الذي تتجلّى فيه الروح الاُمويّة ـ ترى الإضطراب في أعلى مظاهره، وقبل التعليق عليه ننبّه على أنّ نصّ الحديث في الصّحيحين وغيرهما هو:
(1) منهاج السنة 3/381ـ385.
(2) تفسير الفخر الرازي ـ سورة النساء، الآية 59، 10/144.
(3) شرح المواقف المرصد الرابع في الإمامة 8/350.
(4) شرح المقاصد الفصل الرابع في الامامة المبحث الثاني الشروط التي تجب في الامام 5/244.
(5) فتح الباري ـ كتاب الأحكام، باب الامراء من قريش 13/113 ـ 119، عارضة الاحوذي كتاب الفتن، الباب 46 ما جاء في الخلفاء 5/67، تحفة الاحوذي أبواب الفتن باب ما جاء أن الخلفاء من قريش إلى أن تقوم الساعة 6/398.
(6) عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ـ كتاب الفتن الباب 49 ما جاء أن الخلفاء من قريش الى ان تقوم الساعة 5/70.
(7 و8) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ـ كتاب الأحكام، باب الاستخلاف 13/211 و212.
(9) منهاج السنة 8/238ـ243.