النص على إمامة أبي بكر:
فاعترف ابن تيميّة بذلك، غير أنّه قال: «ليس هذا قول جميعهم» قال: «بل قد ذهبت طوائف من أهل السنّة إلى أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص» وبدلا من أن يذكر الطوائف والنصوص التي يدّعونها قال: «والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره من الأئمة، وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد، إحداهما: أنها ثبتت بالإختيار. قال: وبهذا قال جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية. وهذا اختيار القاضي أبي يعلى وغيره. والثانية: إنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة. قال: وبهذا قال الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث، وبكر ابن اخت عبد الواحد، والبيهسية من الخوارج»(1) انتهى ما نقله عن القاضي أبي يعلى.
إذن، عن أحمد قولان، وبكلّ قال قوم، أحدهما: الإختيار، والآخر: الإشارة، فأين الأقوام القائلون بالنص؟
ثم نقل كلاماً لابن حامد الحنبلي تضمّن بعض الأحاديث والآثار التي في أسانيدها بحث وكلام لا يخفى، وهي ليست بنصوص على الخلافة، كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر» وكقضية صلاة أبي بكر في مرض النبي.
ثم نقل كلاماً لابن حزم يقول: «إختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت طائفة: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يستخلف أحداً، ثم اختلفوا فقال بعضهم: لكن لمّا استخلف أبا بكر على الصلاة كان ذلك دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمر. وقال بعضهم: لا، ولكن كان أبينهم فضلا فقدّموه لذلك، وقالت طائفة: بل نصّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على استخلاف أبي بكر بعده على اُمور الناس نصّاً جليّاً»(2).
إذن، أكثر القوم على القولين الأولين، فلا وصيّة ولا نصّ، كما قال العلاّمة، ونسب القول بالنص إلى طائفة ولم يسم منهم أحداً، ولكن ما هو رأي ابن حزم؟
إنه يقول بالنص، وهذه عبارته: «قال أبو محمّد: وبهذا نقول، لبراهين» ولكن ما هي البراهين؟
قال: «أحدها: إطباق الناس كلّهم… على أن سمّوه خليفة رسول الله…»!!
ثم ذكر أشياء مروية عن عائشة وأسرة أبي بكر، ثم قال: «واحتجّ من قال: لم يستخلف أبا بكر، بالخبر المأثور عن عبدالله بن عمر عن عمر أنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي ـ يعني أبا بكر ـ وإلاّ استخلف فلم يستخلف من هو خير منّي. يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبما روي عن عائشة رضي الله عنها إذ سئلت: من كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستخلفاً لو استخلف».
فأجاب «ومن المحال أن يعارض إجماع الصحابة…».
فاضطر ابن حزم الى التمسك بالإجماع، والخروج عن دعوى النص…!!
وابن تيميّة ـ بعد نقل كلّ هذا ـ يجد نفسه مضطرّاً إلى أن يقول:
«قلت: والكلام في تثبيت خلافة أبي بكر وغيره مبسوط في غير هذا الموضع»!!
قال: «فقد تبيّن أنّ كثيراً من السلف والخلف قالوا فيها بالنص الجلي أو الخفي، وحينئذ فقد بطل قدح الرافضي…»(3)!!
أين تبيّن؟ ومَن الكثير من السلف والخلف؟ ولو سلّمنا، فكيف الجمع بين هذه الدعوى وبين الإقرار بأنه «لا كان في الصّحابة من يقول: إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا أئمة، ولا كانت خلافتهم صحيحة، ولا من يقول: إن خلافتهم ثابتة بالنص»(4)؟ وكيف الجواب عن هذا التناقض والتكاذب؟!
وكأنّ الرجل يعلم ـ في قرارة نفسه ـ أنّ الذي يقوله ما هو إلاّ كذب وزور، وأنّه ليس هناك نصّ على أبي بكر وعمر، فلا يجد محيصاً من إبطال كلام ابن حزم وإن أورده على طوله واستشهد به، فيقول: «والتحقيق: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم دلّ المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه باُمور متعدّدة من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامِد له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً! ثم علم أنّ المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاءً بذلك…»(5)!!
إذن، لا يوجد نص، وإنّما علمٌ من رسول الله ـ فيما يزعم ـ بأن المسلمين سيجتمعون عليه، وسكوتٌ منه على ما سيفعلونه!!
(1) منهاج السنة 1/486ـ487.
(2) منهاج السنة 1/493.
(3) منهاج السنة 1/497ـ499.
(4) منهاج السنة 6/338.
(5) منهاج السنة 1/516.