7 ـ الكذب عليه
ولم يخل بحثٌ من بحوث كتاب (منهاج ابن تيميّة) من الكذب والإفتراء على أميرالمؤمنين عليه السّلام في شتّى المجالات…
* فقد تقدّم في فصل (حروبه) أن نسب إلى الإمام عليه السلام الندم على قتال الجمل وصفّين، وتصريحه بعدم وجود نصٍّ معه على ذلك، وأنه كان يقول ليالي صفّين: يا حسن يا حسن… ولله در مقام قامه سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر…
وهو في هذه الاُمور لا يذكر أحداً رواها، بل يقول ـ في موضع واحد ـ «وهذا رواه المصنّفون»، ولكن من هم؟ وما هي تصانيفهم؟
وكيف يصدَّق أنه كان يقول: «لله درّ مقام قامه سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر» وقد ثبت أن الرجلين قد ندما على تركهما القتال معه ضد الفئة الباغية؟(1)
وأمّا أن الحسن السبط عليه السلام كان مخالفاً لوالده في القتال في صفين والجمل، فلم يذكر له إسناداً ولا من رواته أحداً، بل يدّعي تواتر ذلك، وهذا من الأكاذيب على الأئمة الأطهار، كما سيأتي في الفصل الخاص بذلك.
وكيف ذلك كلّه… مع وجود النصوص المعتبرة مع الإمام عليه السّلام في قتاله في البصرة وصفّين، وقد ذكرنا بعضها؟
وبذلك ظهر كذبه في تكذيب الحديث…!
* وكان في كلماته الماضية أنّ علياً هو الذي ابتدأ بالقتال، وهذا ما كرّره في موارد من كتابه بقصد التأكيد عليه، مدّعياً أنّ قوله تعالى: (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي…) لا يفيد إلاّ قتال المبتدء بالقتال، وهم لم يكونوا مبتدئين، بل الإمام عليه السلام ابتدأ بقتالهم، ولم يكن له مجوّز في الآية من القرآن الكريم، كما لم يكن معه نص من رسول الله…
وبغضّ النظر عن معنى الآية المباركة، فإنّ من يلقي نظرة على الأحداث يعلم بأنّ الإمام عليه السلام لم يكن المبتدء… فما ذكره كذب.
* وذكر أنّ الإمام عليه السّلام كان قد تعلّم من أبي بكر وعمر.
وهذا أيضاً من الأكاذيب.
* وكرّر القول بأنه كان يرى أفضليّة أبي بكر وعمر منه ويصرّح بذلك:
«.. كيف؟ وقد ثبت عن علي ـ من وجوه متواترة ـ أنه كان يقول: خير هذه الاُمّة بعد نبيّها أبو بكر وعمر»(2).
«وكذلك علي ـ رضي الله عنه ـ قد تواتر عنه من محبّتهما وموالاتهما وتعظيمهما وتقديمهما على سائر الاُمّة ما يعلم به حاله في ذلك… وهذا معروف عند من عرف الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصة والعامّة، والمنقولة بأخبار الثقات. وأمّا من رجع إلى ما ينقله من هو من أجهل الناس بالمنقولات، وأبعد الناس عن معرفة أمور الإسلام، ومن هو معروف بافتراء الكذب الكثير الذي لا يروج إلاّ على البهائم ويروج كذبه على قوم لا يعرفون الإسلام…»(3).
«وقد روى بضعة وثمانون نفساً عن علي أنه قال: خير هذه الاُمّة بعد نبيّها أبو بكر ثم عمر. رواها البخاري في الصحيح عن علي رضي الله عنه. وهذا هو الذي يليق بعلي رضي الله عنه، فإنه من أعلم الصحابة بحق أبي بكر وعمر، وأعرفهم بمكانهما من الإسلام وحسن تأثيرهما في الدين…»(4).
«وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجهاً أنه قال على منبر الكوفة: خير هذه الاُمة بعد نبيّها أبو بكر وعمر…»(5).
«وطائفة كانت تفضّله حتى قال: لا يبلغني عن أحد أنّه فضّلني على أبي بكر وعمر إلاّ جلدته جلد المفتري»(6).
أقول:
فانظر كيف يدّعي التواتر لمثل هذا الكلام الكذب، ولا يعترف بتواتر منقبة واحدة من مناقب الإمام المتواترة قطعاً؟
وانظر كيف يدّعي ثبوت هذا التواتر حتّى عند «الخاصّة»؟
ولو وجدنا متّسعاً من الوقت لأثبتنا كذب هذا الأثر عن الإمام حتّى في كتب القوم، وعلى ضوء كلمات علمائهم.
أمّا الأثر «لا يبلغني..» فقد كفانا الدكتور رشاد سالم المؤنة حيث قال في الهامش أنه من أخبار كتاب (فضائل الصحابة) وأن محقّقه قال: «ضعيف».
وعلى الجملة، فقد ذكرنا في موضعه ـ نقلا عن (الفصل لابن حزم) و(الإستيعاب لابن عبد البر) ـ أن جماعةً كبيرةً من الصّحابة وغيرهم كانوا يقولون بأفضليّة الإمام من أبي بكر وعمر… ثم إنا لم نجد في شيء من الكتب أنّه جلد أحداً على هذا القول!!
* وكذب على الإمام عليه السلام إذ نسب إليه أنّه لم يكن يعتقد بعصمته: «.. بل النقول المتواترة عنه تنفي اعتقاده في نفسه العصمة»(7).
فانظر كيف ينسب إليه هذا ويدّعي تواتره، مع عدم ذكر دليل على دعواه! هذا، مع أنه لا يرى العصمة إلاّ فعل الواجب وترك المحرّم:
«والعصمة مطلقاً ـ التي هي فعل المأمور وترك المحظور ـ ليست مقدورةً عندهم لله…»(8).
فانظر أيَّ شيء ينفيه عن الإمام ناسباً النفي إليه، مدّعياً التواتر عليه!!
* وكذب عليه في قضيّة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم طرقه وفاطمة قائلا: «ألا تصلّيان».. وقد كرّر هذا غير مرّة:
قال: «والإحتجاج بالقدر من هذا الباب، كما في الصحيح عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: طرقني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفاطمة فقال: ألا تقومان تصلّيان؟ فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا. قال فولّى وهو يقول: (وَكَانَ الاِْنسَانُ أَكْثَرَ شَيْء جَدَلاً). فإنه لمّا أمرهم بقيام اللّيل فاعتلّ علي رضي الله عنه بالقدر وأنّه لو شاء الله لأيقظنا، علم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ هذا ليس فيه إلاّ مجرّد الجدل الذي ليس بحق فقال: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا»(9).
وذكره مرّةً أخرى مستشهداً به على مخالفته لأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(10).
ومرّةً ثالثةً ضمن الموارد التي آذى فيها الإمام رسول الله وخالفه(11).
أقول:
وهذا الخبر مما كذب به على الإمام عليه السّلام، وقد أخرجه البخاري أربع مرات(12) وأحمد مرّتين(13) ومسلم في صحيحه(14) ولكنّهم ما رووه إلاّ بسند واحد فقط، ممّا يبدو أن الخبر من صنع رجل واحد، وقد وجدنا في سند هذا الخبر الموضوع إزراءً بالإمام والصدّيقة الطاهرة: (ابن شهاب الزهري) هذا الرجل الذي كان منحرفاً عن الإمام، وكان شرطيّاً لبني اُميّة(15)، وله في الحطّ من الإمام وأهل البيت عليهم السلام أخبار وأحاديث اُخرى.
وعلى فرض صحة الحديث، فليس فيه أية غضاضة عند العلماء عليه وعلى الزهراء البتول، قال القسطلاني بشرحه:
«وهو يقول (وَكَانَ الاِْنسَانُ أَكْثَرَ شَيْء جَدَلاً) قيل قاله تسليماً لعذره، وأنّه لا عتب عليه. وقال ابن بطّال: ليس للإمام أن يشدّد في النوافل، فإنه صلّى الله عليه وسلّم قنع بقوله: أنفسنا بيد الله. فهو عذر في النافلة لا في الفريضة»(16).
* وكذب عليه شرب الخمر في قضية ونزول الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى…)(17).
أقول:
هذه الرواية رواها الترمذي بإسناده عن أبي عبد الرحمن السّلمي، وفيه غير واحد من المجروحين، لا سيّما السّلمي، فقد نصّوا على كونه عثمانيّاً(18).
هذا، ولقد أخرج الحاكم وصحّحه، ووافقه الذهبي، عن طريق أحمد بن حنبل عن علي عليه السلام قال: دعانا رجل من الأنصار ـ قبل أن تحرم الخمر ـ فتقدّم رجل فصلّى بهم المغرب، فقرأ (يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فالتبس عليه فيها فنزلت (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى).
قال الحاكم والذهبي: «في هذا الحديث فوائد كثيرة، وهي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره وقد برّأه الله منها، فإنه روى هذا الحديث»(19).
أقول: صريح كلامهما أن من نسب هذا إلى أميرالمؤمنين هم «الخوارج»، فما بال ابن تيمية يحتجُّ بقول الخوارج ويطعن في الإمام، إن لم يكن منهم؟
وممّا يشهد بكذب الخبر أيضاً روايتهم خبراً آخر في شأن نزول الآية، وهو شرب جماعة من الصحابة، وليس فيه ذكر لعلي عليه السّلام، بل روى بعضهم كابن مردويه خبراً ـ نصّ ابن حجر على نظافة سنده ـ فيه وجود أبي بكر وعمر فيهم(20). ولعلّ هذا هو السرّ في وضع الخوارج ما سمعت.
* وكذب عليه بأنّه خطب ابنة أبي جهل، وكرّر هذا في مواضع، وهذا الخبر طعن في النبي والإمام والزّهراء، ممّا حمل بعض الأكابر من العلماء على إظهار تعجبهم منه ومن راويه! قال الحافظ ابن حجر بشرحه:
«ولا أزال أتعجب من المسور كيف بالغ في تعصبه لعلي بن الحسين حتى قال انّه لو أودع عنده السيف لا يمكّن أحداً منه حتى تزهق روحه، رعاية لكونه ابن ابن فاطمة، محتجاً بحديث الباب؟ ولم يراع خاطره في أن ظاهر سياق الحديث المذكور غضاضة على علي بن الحسين، لما فيه من إيهام غض من جدّه علي بن أبي طالب، حيث أقدم على خطبة بنت أبي جهل على فاطمة حتى اقتضى أن يقع من النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك من الانكار ما وقع»(21).
وسنتعرّض لهذا الخبر في ما يتعلّق بالزهراء عليها السلام.
(1) المستدرك على الصحيحين ـ كتاب معرفة الصحابة، باب مناقب علي الحديث 4598 و4601 ـ 3/125ـ126.
(2) منهاج السنة 2/72.
(3) منهاج السنة 6/178.
(4) منهاج السنة 7/284.
(5 و4) منهاج السنة 7/511.
(7) منهاج السنة 6/440.
(8) منهاج السنة 7/85.
(9) منهاج السنة 3/85.
(10) منهاج السنة 6/28.
(11) منهاج السنة 7/237.
(12) صحيح البخاري، كتاب التهجد بالليل، الباب 721، الحديث 1051، 2/493. صحيح البخاري ـ كتاب التفسير، الباب 389، الحديث 1149، 6/440. صحيح البخاري ـ كتاب الاعتصام، الباب 1183، الحديث 2151، 9/765. صحيح البخاري ـ كتاب التوحيد، الباب 1226، الحديث 2263، 9/808.
(13) مسند أحمد مسند علي بن أبي طالب، الحديث 572 و576، 1/124 ـ 125.
(14) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، الحديث 206، 1/538.
(15) سير اعلام النبلاء ـ الترجمة 80، شعبة 7/226. ميزان الاعتدال ـ حرف الخاء، الترجمة 2397، خارجة بن مصعب، 1/625.
(16) إرشاد الساري شرح صحيح البخاري ـ كتاب التهجّد، باب تحريض النبي على صلاة الليل، 3/177.
(17) منهاج السنة 7/237.
(18) تهذيب التهذيب الترجمة 3380، عبدالله بن حبيب بن ربيعة 5/164.
(19) المستدرك على الصحيحين ـ كتاب التفسير، تفسير سورة النساء، الحديث 3199، 2/336.
(20) فتح الباري في شرح البخاري كتاب الأشربة، باب نزول تحريم الخمر وهي من البسر والتمر 10/40.
(21) فتح الباري في شرح البخاري كتاب النكاح، باب ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف 9/327.