الحقيقة والمجاز عند ابن تيمية
ثم إن ابن تيميّة يضطرّ ـ لأجل إضفاء صبغة علميّة على ما زعمه من عدم وجود ما لا يفهمه أحدٌ في القرآن الكريم، وضرورة حمل ألفاظه على ظواهرها ـ إلى إنكار المجاز في اللّغة العربية، وأنّه ليس فيها إلاّ الحقيقة، وعلى هذا فلا يوجد في الكتاب والسنّة مجاز أصلا!!
يقول: «فهذا التقسيم هو إصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة، لم يتكلّم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم، كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي» ثم يقول: «أوّل من عرف أنّه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى»(1).
ويقول: «وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف، والخلف فيه على قولين، وليس النزاع فيه لفظيّاً، بل يقال: نفس هذا التقسيم باطل لا يتميّز هذا عن هذا، ولهذا كان كلّ ما يذكرونه من الفروق يبين أنها فروق باطلة… وقولهم: اللّفظ إن دلّ بلا قرينة فهو حقيقة وإن لم يدل إلاّ معها فهو مجاز، فقد تبيّن بطلانه»(2).
ونقول: «هذا التقسيم لا حقيقة له، وليس لمن فرّق بينهما حدّ صحيح يميّز به بين هذا وهذا، فعلم أنّ هذا التقسيم باطل، وهو تقسيم من لم يتصوّر ما يقول بل يتكلَّم بلا علم، فهؤلاء مبتدعة في الشرع مخالفون للعقل»(3).
وهذا رأي باطل مردود بإجماع علماء اللغة والأدب وغيرهم.
بل لا يتمكّن هو من الإلتزام به أيضاً، لذلك نراه يناقض نفسه حيث يقول في كتابه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) «… ولفظ «مع» جاءت في القرآن عامة وخاصة; فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ) فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم. ولهذا قال ابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل: هو معهم بعلمه. وأما المعية الخاصة ففي قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) وقوله تعالى لموسى (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) وقوله تعالى (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا).. يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر رضي الله عنه. فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمّد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين.
فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كلّ مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام. بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك. وقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الاَْرْضِ إِلَهٌ) أي هو إله من في السموات وإله من في الأرض، كما قال تعالى (وَلَهُ الْمَثَلُ الاَْعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ) وكذلك قوله تعالى (وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) كما فسّره أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره أنه المعبود في السموات والأرض»(4).
فما أقرّه ابن تيمية هنا من التفسير للمعيّة ومن التفسير للظرفية بالمعنى الذي يليق بالله تعالى… فيه إخراج للكلام عن مقتضى الظاهر… وإن لم يعترف هو بهذا الإخراج.
إنه قد خالف منهجه الظاهري في فهم القرآن إضطراراً، وذلك لضرورة أن الظاهر يتعارض مع مذهبه هو… وإلاّ فَلِمَ لم يلتزم هنا ما التزمه في غير هذا الموضع… ولِمَ لم يقل هنا ما قاله في آية (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) مثلا أو العكس… لم لم يقل في تلك وغيرها ما قاله هنا؟.
إن المنهج السليم يجب أن يطّرد تطبيقه وينتظم طريقه، أما أن يتحكّم ابن تيمية في المنهج فيفسّر بالظاهر في آية دون أخرى… فهذا لا يقرّه المنهج العقلي السليم.
ولكن ابن تيمية لم يعترف بتناقضه… ولا بخروجه عن مناهجه، كما سيأتي عند الكلام على فهمه في قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)… وسيتضح هناك إن شاء الله أن في دفاعه أدلة إدانته.
أما ابن القيّم ـ تلميذ ابن تيمية ـ فهو على نمط شيخه للفهم الظاهري، وعلى نمطه أيضاً في الخروج عن المنهج الذي ارتضياه.. بل وعلى نمطه كذلك في عدم الإعتراف بالإنحراف عن ذلك المنهج.
لا عجب في ذلك… ولكن العجب في أنهما عند الخروج على منهجهما ينقلان عن السلف المعاني اللائقة وصرفهم للفظ عن ظاهره، أما عند التمسك بالمنهج الظاهري فإنهما إن وجدا نصاً عن السلف يناقض فهمهما أنكراه أو أوّلاه. فهما يحلاّن التأويل تارة ويحرّمانه تارة أخرى، وسواء سمَّيا ذلك تأويلا أو حقيقة أو تفسيراً أو مجازاً! وسواء اعترفا بالمجاز أو لم يعترفا، فإنّهما متناقضان مع مذهبهما…
قال ابن القيّم: «وأما قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)فهذه الآية لها شأن، وقد اختلف فيها السلف والخلف على قولين: فقالت طائفة: نحن أقرب إليه بالعلم والقدرة والإحاطة. وعلى هذا فيكون المراد قربه سبحانه بنفسه وهو نفوذ قدرته ومشيئته فيه وإحاطة علمه به. والقول الثاني: إن المراد قرب ملائكته منه، وأضاف ذلك إلى نفسه بصيغة ضمير الجمع على عادة العظماء في إضافة أفعال عبيدها إليها بأوامرهم ومراسيمهم إليهم، فيقول الملك نحن قتلناهم وهزمناهم. قال تعالى (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)وجبرائيل هو الذي يقرؤه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ)فأضاف قتل المشركين يوم بدر إليه، وملائكته هم الذين باشروه إذ هو بأمره. وهذا القول هو أصحّ من الأول…»(5).
وعن المَعِيَّة قال «… وغاية ما تدل عليه «مع» المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور، وذا الإقتران في كلّ موضع بحسبه يلزمه لوازم بحسب متعلقه. فإذا قيل: الله مع خلقه بطريق العموم، كان من لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم، وإذا كان ذلك خاصّاً كقوله (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) كان من لوازم ذلك معيّته لهم بالنصرة والتأييد والمعونة»(6).
(1) الإيمان ـ فصل في أن دلالة الإيمان على الأعمال حقيقة لا مجاز: 72ـ73.
(2) المصدر نفسه: 94ـ95.
(3) المصدر نفسه: 80.
(4) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: 107ـ108.
(5) الصواعق المرسلة: 411.
(6) المصدر: 409.