وتكلّم على إقامة المآتم… فجعل ذلك من حماقات الشيعة: «ومن حماقتهم إقامة المأتم والنياحة على من قد قتل من سنين عديدة. ومن المعلوم أن المقتول وغيره من الموتى إذا فعل مثل ذلك بهم عقب موتهم، كان ذلك ممّا حرّمه الله ورسوله…
وهؤلاء يأتون من لطم الخدود وشق الجيوب ودعوى الجاهلية وغير ذلك من المنكرات بعد موت الميت بسنين كثيرة، ما لو فعلوه عقب موته لكان ذلك من أعظم المنكرات التي حرّمها الله ورسوله، فكيف بعد هذه المدة الطويلة…
ومن المعلوم أنه قد قتل من الأنبياء وغير الأنبياء ظلماً وعدواناً من هو أفضل من الحسين…»(1).
وأفصح عن تضجّره لإقامة الشيعة المآتم على السبط الشهيد عليه السّلام فقال: «وكذلك حديث عاشوراء… وأقبح من ذلك وأعظم: ما تفعله الرافضة من اتّخاذه مأتماً يقرأ فيه المصرع، وينشد فيه قصائد النياحة…»(2).
وحتى الحزن… حتّى على فقد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ينهى عنه ابن تيمية ويمنعه:
«ثمّ إنّ هؤلاء الشيعة وغيرهم يحكون عن فاطمة من حزنها على النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لا يوصف، وأنها بنت بيت الأحزان، ولا يجعلون ذلك ذمّاً لها، مع أنه حزن على أمر فائت لا يعود. وأبو بكر إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل، وهو حزن يتضمّن الإحتراس، ولهذا لمّا مات لم يحزن هذا الحزن، لأنّه لا فائدة فيه!»(3).
أقول:
كان الغرض من ذكر هذه النصوص معرفة ابن تيميّة عقيدةً وعلماً وعدالةً.
وقد كفانا علماء الفريقين مؤنة الجواب عن ذلك كلّه… بذكر الأدلّة الكثيرة عن النبي، الدالّة على جواز زيارة القبور والبكاء على الميّت، قولا وفعلا وتقريراً، والمخرّج جملةٌ منها في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستّة، وكذا عن غيره صلّى الله عليه وآله وسلّم قولا وفعلا وتقريراً، متابعةً له وعملا بسنّته، وإنّ المستفاد من مجموعها أنّ المنع إنّما كان سنّةً من عمر بن الخطّاب.
وأما في خصوص زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد كتب عدّة من أئمة المذاهب ردوداً على ابن تيمية، حتى أنّ بعض من كان من أصحابه انحرف عنه وباعده لأجل ذلك و ردّ عليه، وستعرف طرفاً من ذلك في آخر هذه (الدراسات).
وأما البناء على القبور، فالشواهد العملية من المسلمين على جوازه كثيرة جدّاً، ممّا يدلّ على قيام السيرة القطعيّة منهم الكاشفة عن رضا الشارع، ومن ذلك ما جاء في كلام الحافظ الذهبي بترجمة العباس عمّ النبي: «ودفن بالبقيع وعلى قبره اليوم قبّة عظيمة من بناء خلفاء آل العبّاس»(4).
وأمّا التوسّل والاستغاثة والاستشفاع… فقد ألّفوا في جواز ذلك كتباً كثيرة،ويكفينا هنا قول الذهبي ـ وكأنّه يقصد التعريض بابن تيمية ـ: «فو الله، ما يحصل الإنزعاج لمسلم والصّياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء، إلاّ وهو محبّ لله ولرسوله، فحبّه المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار، فزيارة قبره من أفضل القرب… فشدّ الرحال إلى نبيّنا مستلزم لشدّ الرحل إلى مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع، إذ لا وصول إلى حجرته إلاّ بعد الدخول إلى مسجده، فليبدأ بتحيّة المسجد، ثم بتحيّة صاحب المسجد، رزقنا الله وإيّاكم، آمين»(5).
وقوله بترجمة معروف الكرخي: «وعن إبراهيم الحربي قال: قبر معروف الترياق المجرّب.
يريد إجابة دعاء المضطرّ عنده، لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء…»(6).
وقوله بترجمة غير واحد:
«كان ورعاً، تقيّاً، محتشماً يتبرّك بقبره»(7).
«قبره مشهور يزار ويدعى عنده»(8).
«قبره يقصد بالزيارة»(9).
(1) منهاج السنة 1/52 ـ 55.
(2) منهاج السنة 8/151.
(3) منهاج السنة 8/459.
(4) سير أعلام النبلاء الترجمة 11، العباس عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 2/97.
(5) سير أعلام النبلاء الترجمة 185، الحسن 4/484 ـ 485. وانظر الترجمة 162، هشام بن عبد الملك 5/358 ـ 359.
(6) سير أعلام النبلاء الترجمة 111، معروف الكرخي 9/343 ـ 344.
(7) سير أعلام النبلاء ـ 47، الذهلي 18/101.
(8) سير أعلام النبلاء ـ 32، أبو الفرج الحنبلي 19/53.
(9) سير أعلام النبلاء ـ 56، العجلي 20/96.