الاجماع على إمامة أبي بكر؟!
فرجع الأمر إلى «اجتماع المسلمين» على خلافة أبي بكر، لكنّ قضايا السقيفة تعترضه، وكذا الكلمات المنقولة عن أبي بكر وعمر، فتراه وقد اُسقط ما في يده، لا يدري ما يقول!!
أمّا بالنسبة إلى تخلّف أميرالمؤمنين عليه السّلام عن البيعة مدّة ستة أشهر ـ وهو ما أخرجه البخاري من طريق الزهري، وابن تيمية طالما يعتمد على كتاب البخاري، ويثني على الزهري، كما ستعلم من غضون الكتاب ـ فينسبه إلى «القيل» وينقل إلى جنب هذا الخبر ما لا يوازيه، لكونه قولا لا يعرف قائله وراويه فيقول: «لكن قيل: علي تأخّرت بيعته ستة أشهر، وقيل: بل بايعه ثاني يوم»(1).
وأمّا بالنسبة إلى تخلّف غير أميرالمؤمنين عليه السّلام، من بني هاشم، فلم ينكر تخلّفهم، غير أنّه قال: «لم يمت أحدٌ منهم إلاّ وهو مبايع له»(2).
واضطرب كلامه، فتارةً أنكر تخلّف غير سعد وقال: «قد علم بالتواتر أنّه لم يتخلّف عن بيعته إلاّ سعد بن عبادة»(3). واُخرى اعترف بتخلّف غير سعد بصراحة حيث قال: «لم يتخلّف عنها إلاّ نفر يسير كسعد بن عبادة»(4). وقال في الكلام عن من تخلّف عن بيعة علي: «وأما تخلف من تخلّف عن مبايعته فعذرهم في ذلك أظهر من عذر سعد بن عبادة وغيره لمّا تخلّفوا عن بيعة أبي بكر، وإن كان لم يستقر تخلّف أحد إلاّ سعد وحده، وأمّا علي وغيره فبايعوا الصّديق بلا خلاف بين الناس، لكن قيل: إنهم تأخّروا عن مبايعته ستة أشهر ثم بايعوه»(5).
ففي هذا الكلام يعترف بتخلّف غير سعد، وهم أميرالمؤمنين وغيره، فيصرّح بأنهم تأخّروا عن مبايعته ستة أشهر، مع نسبة هذا الخبر ـ وهو الذي أخرجه البخاري من طريق الزهري ـ إلى «القيل»… وقد جاء في هذا الخبر أنّهم إنما بايعوه بعد أن توفّيت الزهراء الطاهرة وبقي علي وحده وأعرضت وجوه الناس عنه، فاضطرّوا إلى البيعة… لكنّ ابن تيميّة لا ينقل هذا الحديث الصريح في كون بيعتهم ـ وذلك بعد ستة أشهر ـ عن اضطرار وإكراه! بل يعبّر عن موقفهم هذا بـ «التأخّر» ويجعل «التخلّف» مختصّاً بسعد بن عبادة!! لكنّ العجب أنّه في موضع آخر يناقض نفسه، فيزعم أن سعداً أذعن لأبي بكر بالإمارة، وهذا عين كلامه:
«بل قد روى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسند الصدّيق عن عفّان، عن أبي عوانة، عن داود بن عبدالله الأودى عن حميد بن عبد الرحمن ـ هو الحميري ـ فذكر حديث السقيفة وفيه: إن الصدّيق قال: ولقد علمت يا سعد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبرّ الناس تبع لبرّهم وفاجرهم تبع لفاجرهم. قال فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الاُمراء.
فهذا مرسل حسن، ولعّل حميداً أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا ذلك، وفيه فائدة جليلة جداً، وهي أنّ سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأوّل في دعوى الإمارة، وأذعن للصدّيق بالإمارة، فرضي الله عنهم أجمعين»(6).
والواقع: إن المتخلّفين عن بيعة أبي بكر كثيرون، وكان علي رأسهم أمير المؤمنين وسعد بن عبادة، إلاّ أن علياً ومن تابعه اضطرّوا إلى البيعة بعد الستة أشهر لفقدهم فاطمة، ولقد سبق من أبي بكر ـ حين أشار عليه أصحابه بإكراه على على البيعة ـ أن قال: «لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه»(7)، وأمّا سعد، فقد استمر لوقوف الأنصار دونه «لأنهم كانوا قد عيّنوه للإمارة، فبقي في نفسه ما يبقى في نفوس البشر» كما نصَّ عليه ابن تيمية نفسه(8).
ومن العجب أيضاً، أنّه يناقض نفسه مرةً اُخرى، إذ ينصّ هنا على أن الأنصار عيّنوه للإمارة، ويعترف بهذه الحقيقية في أوائل الكتاب، ثم يأتي في الجزء السادس ويكذّبه قائلا: «فما ذكره الشهرستاني من أنّ الأنصار اتّفقوا على تقديمهم سعد بن عبادة، هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل، والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك»(9).
وعلى الجملة… فإن الرّجل يعلم بأن لا إجماع!! بل المتخلّفون من أهل الشوكة ومن السابقين الأولين كثيرون، ولذا فإنّه في حين يدّعي الإجماع على أبي بكر(10) يلتجأ إلى أن يقول في أواخر الكتاب: «لا نحتاج في تقرير إمامة الصديق رضي الله عنه ولا غيره إلى هذا الإجماع»!!(11).
فلماذا قدّموه؟
(1 ـ 3) منهاج السنة 8/330.
(4) منهاج السنة 4/325.
(5) منهاج السنة 4/388.
(6) منهاج السنة 1/536 ـ 537.
(7) الإمامة والسياسة ـ كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب 1/20.
(8) منهاج السنة 1/536.
(9) منهاج السنة 6/326.
(10) منهاج السنة 4/326.
(11) منهاج السنة 8/344.