ابن تيمية وحديث النزول:
يقول الشيخ هراس:
«.. ولكن هل معنى هذا أن ابن تيمية يقول بالنزول الحقيقي الذي يقتضي هبوط الباري جلّ شأنه من على العرش إلى السماء الدنيا؟ وهل هو يجوّز عليه الحركة والإنتقال؟ لم أجد لابن تيمية نصّاً يفيد هذا، بل مذهبه الصريح الذي يذكره في عامّة كتبه أن الله فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وأنه لا يحصره ولا يحيط به شيء من مخلوقاته، كما أنه لا يحلّ في شيء منها…»(1).
.. نقول: الواقع أن ابن تيمية فيه جرأة عجيبة في ألفاظه وتقريره.. بشكل لا يلمس القارىء فيه القلب الخائف من جلال الله.. إنما هي ألفاظ جريئة لم ترد عن أحد سبقه.. ألفاظ قد لا يستطيع القارىء أن يأخذ عليه فيها مأخذاً لو نظر إليها نظرة عابرة.. خاصّة أنه يأتي بألفاظ متشابهة، ولكن تناقضه العجيب يفضحه مع أول نظرة باحثة.. هذا مع كون الباطل لا استقامة له أبداً.
ونقول للشيخ هراس.. الذي لم يجد لابن تيمية نصّاً يفيد النزول الحقيقي.. نقول له:ها هو النص الذي تبحث عنه!:
يقول ابن تيمية:
«وأمّا أحاديث النزول إلى السماء الدنيا كلّ ليلة فهي الأحاديث المعروفة الثابتة عند أهل العلم بالحديث، وكذلك حديث دنوّه عشيّة عرفة، رواه مسلم في صحيحه. وأما النزول ليلة النصف من شعبان، ففيه حديث اختلف في إسناده. ثم إن جمهور أهل السنة يقولون: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما، ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدّد»(2).
«.. وأما دعواك أن تفسير القيّوم الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك، فلا يقبل منك هذا التفسير إلاّ بأثر صحيح مأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أو عن بعض أصحابه أو التابعين، لأن الحي القيّوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن ذلك أمارة ما بين الحيّ والميت، لأن كلّ متحرك لا محالة حي وكلّ ميت غير متحرك لا محالة، ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول ربّ العزّة؟ إذ فسّر نزوله مشروحاً منصوصاً، ووقّت له وقتاً موضوحاً، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبساً…»(3).
ويؤكد ذلك فيقول «.. وكلام أهل الحديث والسنّة في هذا الأصل كثير جدّاً، وأما الآيات والأحاديث الدالة على هذا الأصل فكثيرة جداً»(4).
وابن تيمية لا يكتفي بأن يثبت الحركة فقط، بل يعتبر نفيها من ابتداع الجهمية.. يقول في فتاويه: «.. فهذا لا يصح إلاّ بما ابتدعته الجهمية من قولهم: لا يتحرك ولا تحلّ به الحوادث. وبذلك نفوا أن يكون استوى على العرش بعد أن لم يكن مستوياً، وأن يجىء يوم القيامة، وغير ذلك..»(5).
وللردّ على ابن تيمية فيما زعمه.. ننقل أوّلا بعض أقوال العلماء في مسألة النزول:
يقول الفخر الرازي: «.. الرابع: أنه تعالى حكى عن الخليل عليه السّلام أنه طعن في إلهيّة الكواكب والقمر والشمس بقوله (لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) ولا معنى للأُفول إلاّ الغيبة والحضور، فمن جوّز الغيبة والحضور على الإله تعالى فقد طعن في دليل الخليل، وكذب الله في تصديق الخليل في ذلك حيث قال (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)(6).
ويقول الغزالي: «.. إذا قرع سمعه النزول في قوله صلّى الله عليه وسلّم (ينزل الله تعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا) فالواجب عليه أن يعلم أن النزول إسم مشترك، قد يطلق إطلاقاً يفتقر إلى ثلاثة أجسام، جسم عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل كذلك، وجسم متنقل من السافل إلى العالي ومن العالي إلى السافل. فإن كان من أسفل إلى علو سمّي صعوداً وعروجاً ورقياً، وإن كان من علو إلى أسفل سمّي نزولا وهبوطاً، وقد يطلق على معنى آخر ولا يفتقر إلى تقدير انتقال وحركة في جسم كما قال الله تعالى (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الاَْنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج) وما رؤي البعير والبقر نازلا من السماء بالإنتقال، بل هي مخلوقة في الأرحام، ولإنزالها معنى لا محالة، كما قال الشافعي رضي الله عنه: «دخلت مصر فلم يفهموا كلامي فنزلت ثم نزلت ثم نزلت» فلم يرد به انتقال جسد إلى أسفل، فتحقق المؤمن قطعاً أن النزول في حق الله تعالى ليس بالمعنى الأول، وهو انتقال شخص وجسد من علو إلى أسفل، فإن الشخص والجسد أجسام والرب جلّ جلاله ليس بجسم، فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا فما الذي أراد; فيقال له: أنت إذا عجزت عن فهم نزول البعير من الماء فأنت عن فهم نزول الله تعالى أعجز «فليس هذا بعشّك فأدرجي» واشتغل بعبادتك أو حرفتك واسكت، واعلم أنه أريد به معنى من المعاني التي يجوز أن يراد بالنزول في لغة العرب، ويليق ذلك المعنى بجلال الله تعالى وعظمته وإن كنت لا تعلم حقيقته وكيفيته»(7).
ويقول الشيخ الزرقاني: «.. فكيف تأخذون بظاهر هذا الخبر، مع أن الليل مختلف في البلاد باختلاف المشارق والمغارب، وإذا كان ينزل لأهل كلّ أفق نزولا حقيقياً في ثلث ليلهم الأخير، فمتى يستوي على عرشه حقيقة كما تقولون؟ ومتى يكون في السماء حقيقة كما تقولون؟ مع أن الأرض لا تخلو من الليل في وقت من الأوقات ولا في ساعة من الساعات، كما هو ثابت مسطور لا يماري فيه إلاّ جهول مأفون»(8).
.. هذا.. ومن ناحية اُخرى يقال لهؤلاء: إن حديث النزول قد فسّره الحديث الذي رواه النسائي بسند صحيح من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله يمهل حتى إذا مضى شطر من الليل الأوّل أمر منادياً فينادى: هل من داع فيستجاب له.. الحديث.. وعلى هذا يكون النزول معناه نزول الملك بأمر الله. وهذا التفسير أولى من تفسير الإمام مالك وغيره للنزول بأنه نزول رحمة لا نزول نقلة… وغير ذلك.. لأن خير ما يفسّر به الحديث هو ما ورد من الحديث.. يقول الحافظ العراقي في ألفيّته في المصطلح: «وخير ما فسّرته بالوارد».
أمّا ما نسبه ابن تيمية إلى الأئمة بإثبات الحركة لله تعالى… فحسبنا ما رواه البيهقي في (مناقب أحمد) بإسناده عن أحمد أنه قال: «.. إحتجّوا عليّ يومئذ ـ يعني يوم نوظر ـ فقالوا: تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك. فقلت لهم: إنما هو الثواب.. قال تعالى (وَجَاء رَبُّكَ) إنما تأتي قدرته.. وإنما القرآن أمثالٌ ومواعظٌ». قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح. وقوله إنما تأتي قدرته: أراد بذلك أثر قدرته.. وهذا من باب مجاز الحذف.
وروى البيهقي فيه أيضاً نقلا عن إمام الحنابلة أبي الفضل التميمي ما نصّه: «.. أنكر أحمد على من قال بالجسم.. وقال: إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف، والله خارج عن ذلك كلّه، فلم يجز أن يسمى جسماً لخروجه عن معنى الجسمية.. ولم يجيء في الشريعة ذلك، فبطل». انتهى بحروفه.
(1) ابن تيميّة السلفي: 156.
(2) منهاج السنّة 2/637ـ639.
(3) شرح العقيدة الأصفهانية: قول محمّد بن الهيصم عن حمل الكلام: 78.
(4) شرح العقيدة الاصفهانية ـ الرد على الجهمية في الصفات: 81.
(5) الفتاوى الكبرى: 5/108.
(6) أساس التقديس ـ القسم الثاني، الفصل التاسع في المجيء والنزول: 83.
(7) إلجام العوام ـ الباب الأول في شرح اعتقاد السلف، الوظيفة الاولى 9 ـ 10.
(8) مناهل العرفان ـ ارشاد وتحذير: 547.