2 ـ سرية أُسامة
قال السيد:
لئن صدعت بالحق، ولم تخش فيه لومة الخلق، فأنت العذق المرجب، والجذل المحكك، وإنك لأعلى ـ من أن تلبس الحق بالباطل ـ قدراً، وأرفع ـ من أن تكتم الحق ـ محلاً، وأجل من ذلك شأناً، وأبر وأطهر نفساً.
أمرتني ـ أعزك اللّه ـ أن أرفع إليك سائر الموارد التي آثروا فيها رأيهم على التعبد بالأوامر المقدسة، فحسبك منها سرية اسامة بن زيد بن حارثة إلى غزو الروم، وهي آخر السرايا على عهد النبي صلّى اللّه عليه وآله، وقد اهتم فيها ـ بأبي وأُمي ـ اهتماماً عظيماً، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها، وحضهم على ذلك، ثم عبأهم بنفسه الزكية إرهاقاً لعزائمهم واستنهاضاً لهممهم، فلم يبق أحداً من وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر وعمر(1) وأبي عبيدة وسعد وأمثالهم، إلاّ وقد عبأه بالجيش(2)، وكان ذلك لأربع ليال بقين من صفر سنة احدى عشر للهجرة، فلما كان من الغد دعا أسامة، فقال له: سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش فاغز صباحاً على أهل أبنى(3)، وحرّق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك اللّه عليهم فأقل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء، وقدم العيون والطلائع معك.
فلما كان اليوم الثامن والعشرين من صفر، بدأ به صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مرض الموت فحمّ ـ بأبي وأُمي ـ وصدع، فلما أصبح يوم التاسع والعشرين ووجدهم متثاقلين، خرج إليهم فحضّهم على السير، وعقد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم اللواء لأسامة بيده الشريفة تحريكاً لحميتهم، وإرهافاً لعزيمتهم، ثم قال: اغز بسم اللّه وفي سبيل اللّه، وقاتل من كفر باللّه. فخرج بلوائه معقوداً، فدفعه إلى بريدة، وعسكر بالجرف، ثم تثاقلوا هناك فلم يبرحوا، مع ما وعده ورأوه من النصوص الصريحة في وجوب إسراعهم، كقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: أغز صباحاً على أهل أبنى، وقوله: وأسرع السير لتسبق الأخبار، إلى كثير من أمثال هذه الأوامر التي لم يعملوا بها في تلك السرية.
وطعن قوم منهم في تأمير أسامة كما طعنوا من قبل في تأمير أبيه، وقالوا في ذلك فأكثروا، مع ما شاهدوه من عهد النبي له بالإمارة، وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم له يومئذ: فقد وليتك هذا الجيش، ورأوه يعقد له لواء الامارة ـ وهو محموم ـ بيده الشريفة، فلم يمنعهم ذلك من الطعن في تأميره، حتى غضب صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من طعنهم غضباً شديداً، فخرج ـ بأبي وأُمي ـ معصب الرأس(4)، مدثراً بقطيفته، محموماً ألماً، وكان ذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأوّل قبل وفاته بيومين، فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: ـ فيما أجمع أهل الأخبار على نقله، واتفق أولوا العلم على صدوره ـ: أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري اسامة، لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وأيم اللّه إنه كان لخليقاً بالإمارة، وان ابنه من بعده لخليق بها، وحضّهم على المبادرة إلى السير، فجعلوا يودّعونه ويخرجون إلى العسكر بالجرف، وهو يحضهم على التعجيل، ثم ثقل في مرضه، فجعل يقول: جهّزوا جيش اسامة، أنفذوا جيش اسامة، أرسلوا بعث اسامة، يكرر ذلك وهم متثاقلون، فلما كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل، دخل اسامة من معسكره على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فأمره بالسير قائلاً له: اغد على بركة اللّه تعالى، فودّعه وخرج إلى المعسكر، ثم رجع ومعه عمر وأبو عبيدة، فانتهوا إليه وهو يجود بنفسه، فتوفي ـ روحي وأرواح العالمين له الفداء ـ في ذلك اليوم. فرجع الجيش باللواء إلى المدينة الطيبة.
ثم عزموا على إلغاء البعث بالمرّة، وكلّموا أبا بكر في ذلك، وأصروا عليه غاية الإصرار، مع ما رأوه بعيونهم من اهتمام النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، في إنفاذه وعنايته التامة في تعجيل إرساله، ونصوصه المتوالية في الإسراع به على وجه يسبق الأخبار، وبذله الوسع في ذلك منذ عبأه بنفسه وعهد إلى اسامة في أمره وعقد لواءه بيده، إلى أن احتضر ـ بأبي وأُمي ـ فقال: اغد على بركة اللّه تعالى، كما سمعت، ولولا الخليفة لأجمعوا يومئذ على ردّ البعث وحلّ اللواء، لكنه أبى عليهم ذلك. فلما رأوا منه العزم على إرسال البعث، جاءه عمر بن الخطاب حينئذ يلتمس منه بلسان الأنصار أن يعزل أسامة ويولي غيره.
هذا، ولم يطل العهد منهم بغضب النبي وانزعاجه من طعنهم في تأمير أسامة، ولا بخروجه من بيته بسبب ذلك محموماً ألماً معصباً مدثراً، يرسف في مشيته، ورجله لا تكاد تقلّه مما كان به من لغوب، فصعد المنبر وهو يتنفس الصعداء ويعالج البرحاء، فقال: أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة، ولئن طعنتم في تأميري أُسامة، لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله. وأيم اللّه إنه كان لخليقاً بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بها.
فأكد صلّى اللّه عليه وسلّم الحكم بالقسم، و(إن) واسمية الجملة ولام التأكيد، ليقلعوا عما كانوا عليه فلم يقلعوا، لكن الخليفة أبى أن يجيبهم إلى عزل أُسامة، كما أبى أن يجيبهم إلى إلغاء البعث، ووثب فأخذ بلحية عمر(5) فقال: ثكلتك أُمك وعدمتك يابن الخطاب، استعمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم، وتأمرني أن أنزعه. ولمّا سيّروا الجيش ـ وما كادوا يفعلون ـ خرج أُسامة في ثلاثة آلاف مقاتل فيهم ألف فرس(6)، وتخلّف عنه جماعة ممّن عبّأهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في جيشه، وقد قال صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم ـ فيما أورده الشهرستاني في المقدمة الرابعة من كتاب الملل والنحل ـ: جهّزوا جيش أُسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه.
وقد نعلم أنهم إنما تثاقلوا عن السير أوّلاً وتخلّفوا عن الجيش أخيراً، ليحكموا قواعد سياستهم، ويقيموا عمدها، ترجيحاً منهم لذلك عن التعبد بالنص، حيث رأوه أولى بالمحافظة وأحق بالرعاية، إذ لا يفوت البعث بتثاقلهم عن السير، ولا يتخلّف من تخلّف منهم عن الجيش، أما الخلافة فإنها تنصرف عنهم لا محالة إذا انصرفوا إلى الغزوة قبل وفاته صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، وكان ـ بأبي وأُمي ـ أراد أن تخلو منهم العاصمة فيصفو الأمر من بعده لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب على سكون وطمأنينة، فإذا رجعوا وقد أبرم عهد الخلافة وأحكم لعلي عقدها، كانوا عن المنازعة والخلاف أبعد، وإنما أمّر عليهم أسامة وهو ابن سبع عشرة سنة(7) ليّاً لأعنّة البعض، وردّاً لجماح أهل في الجرف تلك المدة، مع ما قد أمروا به من الإسراع والتعجيل.
وسلّمتم بطعنهم في تأمير أسامة مع ما وعوه ورأوه من النصوص قولاً وفعلاً على تأميره.
(1) أجمع أهل السير والأخبار على أن أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهم كانا في الجيش وارسلوا ذلك في كتبهم إرسال المسلمات وهذا مما لم يختلفوا فيه. فراجع ما شئت من الكتب المشتملة على هذه السرية، كطبقات ابن سعد، وتاريخي الطبري وابن الأثير، والسيرة الحلبية، والسيرة الدحلانية وغيرها. لتعلم ذلك، وقد أورد الحلبي حيث ذكر هذه السرية في الجزء الثالث من سيرته، حكاية ظريفة نوردها بعين لفظه، قال: إن الخليفة المهدي لما دخل البصرة رأى أياس بن معاوية الذي يضرب به المثل في الذكاء وهو صبي ووراءه أربع مئة من العلماء وأصحاب الطيالسة فقال المهدي: أف لهذه العثانين ـ أي اللحى ـ أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث؟ ثم التفت إليه المهدي وقال: كم سنك يا فتى؟ فقال: سني أطال اللّه بقاء أمير المؤمنين سن أُسامة بن زيد بن حارثة لما ولاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله جيشاً فيه أبو بكر وعمر، فقال: تقدم بارك اللّه فيك (قال الحلبي) وكان سنه سبع عشرة سنة. انتهى.
(2) كان عمر يقول لأسامة: مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأنت عليّ أمير، نقل عنه جماعة من الاعلام، كالحلبي في سرية أسامة من سيرته الحلبية، وغير واحد من المحدثين والمؤرخين.
(3) ابنى ـ بضم الهمزة وسكون الباء ثم نون مفتوحة بعدها ألف مقصورة ـ: ناحية بالبلقاء من أرض سوريا بين عسقلان والرملة، وهي قرب مؤتة التي استشهد عندها زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين في الجنة عليه السلام.
(4) كلّ من ذكر هذه السرية من المحدثين وأهل السير والأخبار، نقل طعنهم في تأمير اسامة وأنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم غضب غضباً شديداً، فخرج على الكيفية التي ذكرناها، فخطب الخطبة التي أوردناها، فراجع سرية أسامة من طبقات ابن سعد، وسيرتي الحلبي والدحلاني، وغيرها من المؤلفات في هذا الموضوع.
(5) نقله الحلبي والدحلاني في سيرتيهما، وابن جرير الطبري في أحداث سنة 11 من تاريخه، وغير واحد من أصحاب الأخبار.
(6) فشن الغارة على أهل ابنى، فحرق منازلهم، وقطع نخلهم، وأجال الخيل في عرصاتهم، وقتل من قتل منهم، وأسر من أسر، وقتل يومئذ قاتل أبيه، ولم يقتل ـ والحمد للّه ربّ العالمين ـ من المسلمين أحد، وكان أسامة يومئذ على فرس أبيه وشعارهم يا منصور أمت ـ وهو شعار النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يوم بدر ـ وأسهم للفارس سهمين وللراجل سهماً واحداً، وأخذ لنفسه مثل ذلك.
(7) على الأظهر، وقيل: كان ابن ثمان عشرة سنة، وقيل: ابن تسع عشرة سنة، وقيل: ابن عشرين سنة. ولا قائل بأن عمره كان أكثر من ذلك.